"إذا أردت أن تبقى بعد الموت فاعمل شيئاً يستحق الكتابة، أو اكتب شيئاً يستحق القراءة" *** لفتة تستحق التقدير لمثقفي جدة تمثلت في قيام عدد منهم بزيارة الأديب الكبير الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في منزلة، حيث استقبلهم وأحسن وفادتهم مقدراً لهم هذه الخطوة الإنسانية التي أعادته إلى دائرة الضوء وهو في عزلته التي آثر أن يعمل بصمت بعد أن قضى سنوات عدة في رئاسة النادي (الثقافي) بجدة، وهي لفتة تمثل تلاحم المثقفين وتقدير الأجيال الجديدة للأجيال السابقة، وخاصة المتسمة بالريادة، فأرجو أن تظهر مثل هذه الاجتهادات التقديرية في مناطق المملكة، وخاصة التي يتواجد فيها بعض من بقي من أساتذتنا الكبار الذين سهلوا الطريق أمام الأجيال الحالية بما أنتجوا من إبداعات، وما طالبوا به من إصلاحات ولفتوا الأنظار إلى استحداثها لمواكبة المسيرة الحياتية، وهذا سيكون سهلاً بوجود الأندية الأدبية العديدة المدعومة بسخاء في هذا العهد المشرق الزاهر، ووجود القائمين عليها ممن يقدرون ويعرفون من كانت لهم الأسبقية في خدمة الثقافة والمثقفين في البلاد، وذلك بما قدموا من مؤلفات وكتب في المجالات الثقافية والإبداعية. أستاذنا أبو وديع (عبدالفتاح أبو مدين) رائد في الصحافة والأدب، ومخلص لكليهما، وقد عمل طوال سنوات عمره في هذا المجال، حيث تتلمذ على يديه الكثيرون من الأدباء والمثقفين، فهو في جريدة (الأضواء) مشاركة مع محمد سعيد باعشن التي لم تدم طويلاً، بالرغم من قصر المدة ساهمت في العديد من الدعوات التنويرية واستقطاب الكاتبين للمساهمة في المسيرة الثقافية، وعندما أنشأ مجلة (الرائد) ورأس تحريرها كانت ميداناً لأقلام الشباب الذين استطاع أن يستهويهم بما كان يقدم من مواد أدبية اشتملت على القصص، والقصائد، والدراسات النقدية، والمواضيع الاجتماعية ذات المساس بالمواطن والوطن والحاجة لها، ثم حولها إلى جريدة بحجم نصف جريدة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وفي بداية الستينيات صارت بحجم الجريدة العادية تصدر أسبوعياً وفيها الكثير من المواضيع الثقافية المتنوعة للكتاب الكبار مثل محمد حسن عواد ومحمد حسين زيدان وعبدالعزيز الربيع وحسن القرشي، وقد كانت الأبواب الجديدة التي سلمها للشباب الذين وجدوا فيه الربان الحريص على أن يبحر أسرع مع مراعاة أسباب السلامة، فكانت للرياضة مكانتها، فهي تتحدث عن المباريات وتنشر الوصف التحليلي بطريقة بانورامية لأحداث الأسبوع الرياضية مع نشر صور اللاعبين، وقد كانت(الرائد) الجريدة الأولى التي أنشأت صفحة فنية تحت مسمى (أفانين) يحررها حمدان صدقة وهاشم عبده هاشم، وذلك أوائل الستينيات -قبل عهد المؤسسات-؛ فقد كانت صفحة جذابة مزودة بصور الفنانين تلك الأيام طارق عبدالحكيم، طلال مداح، عبدالله محمد، مطلق الذيابي، ثم غازي علي، حامد عمر، ومحمد العماري، وههؤلاء الثلاثة كانوا ممن درسوا الموسيقى في الخارج (مصر) ومحمود حلواني، عبدلله مرشدي، سعود زبيدي، عمر باعشن، ومبروك القريني (أبو حصة) وغيرهم، وقد كانت الصفحة تنشر نصوص بعض الأغاني التي كتبها محمد الفهد العيسى إبراهيم خفاجي، محمد طلعت، محمد علي الأدريسي، صالح جلال، على الرابغي، وخالد زارع، ولطفي زيني، وقد كانت تهتم بأخبار الإذاعة والمذيعين والمهندسين الإذاعيين، وكانت مساهمات الإذاعي الشاب المتحمس بدر كريم لها تأثيرها على المحررين وخاصة هاشم عبده الذي تربطه صداقة أخوية بأبي ياسر، وقد استحدثت بعض الجرائد الصفحات الفنية بعدها في عهد المؤسسات، عندما توقفت الرائد عن الصدور، وقد كان أبو مدين يعمل طوال الوقت، يكتب ويستكتب، ويعطي للرواد مكانتهم، كما كان يحاول أن يثير بعض المناقرات الأدبية بين الأدباء والشعراء، مثل ما فعل مع أبي تراب الظاهري، والشاعرين د. عارف قياسة، وعلي دمر، وذلك عندما نشر د. علي دمر قصيدة وقال أبو تراب يوجد فيها خطأ عروضي، بادر أبو مدين ونقل للشاعر ماقاله أبو تراب، ولكون الشاعر على دمر من الشعراء السوريين المعروفين غضب وكتب بعنوان (أوهام أبي تراب) يرد ويتحدى أن كانت في القصيدة أخطاء، فثارت ثائرة أبي تراب وكتب رداً مطولاً بعنوان مسجوع كطريقته المعتادة (هبهبة الهبهاب في الرد على النقاب) وكان أبو وديع يشعل مثل هذه المناقشات مثل أدب الشباب وأدب الشيوخ يشعلها عبدالعزيز فرشوطي، وقد جعل من الجريدة ساحة يجرب فيها الشباب بتوجيهاته، فكان علوي الصافي، وهاشم عبده هاشم، وحسن فهد الهويمل، وصالح الوشمي، ومن طلبة كلية الشريعة بمكة ( جامعة أم القرى) عبدالعزيز النقيدان، والشاعر إبراهيم الزيد، وراشد الحمدان، وشباب غيرهم أذكر منهم حسين عاتق الغريبي، ويعقوب إسحاق، ثم جذب الكتاب عبدالله مناع وعبدالله الجفري، وإبراهيم الناصر، وفتح بابا للقراء يشرف عليه (ابن الشاطي) وكانت طريقة مخالفة للصحف الأخرى، يقتطع المحرر جزءًا من الموضوع ثم يعلق عليه مبيناً الأخطاء مع الدعوة بالعودة والمساهمة بشكل أفضل، وقد ظهر من هذا الباب كتّاب أصبحوا من أبرز كتّاب اليوميات والزوايا في الصحف المحلية. في النادي عمل على إصدار (علامات) في النقد كانت عربية يساهم فيها النقاد العرب المعروفون، وتطلب في جميع الدول العربية، فبعلاقاته مع الأدباء العرب وما يتمتع به من كاريزما كانوا يتجاوبون معه، لأنه يقدم أعمالهم في طباعة وإخراج رائع ومميز، وقد كتب كتابه (وتلك الأيام) متحدثاً عن حبه ومعاناته في الصحافة والأدب، فهو بحق رائد (الرائد) والرائد لا يكذب أهله. لا أنكر فضل أبي وديع فهو أول من نشر لي في النثر والشعر مشكوراً كما له الفضل على غيري، فتكريمه واجب ممن يقدرون جهود المثقفين والمبدعين.