لا أدري من أين دخلَت إلى الشقة ولم أفكر كثيراً عما إذا كانت جنية أوعلى الأقل قد تلبستها روح شيطان رجيم ، إلا أن المشكلة الوحيدة للخنفسانة أن عينيها غير واضحتين ولا يمكن أن تعرف مشاعرها وتقرأ أحاسيسها إن كانت غاضبة أو محبة أو جائعة أو تريد قتلك أو على الأقل قرصك، في البداية فكرت أن أقتلها بصمغ الفأر فلم أجد لحظتها هذا السلاح، ثم فكرت أن احشرها بالبخاخ المخصص لقتل الذباب إلا أن عفشي كان مكركباً ومتوزعاً في كراتين ورقية كنت قد جمعتها من حاويات الزبالة، فقد كانت هذه الأيام من الأسبوع الأول لانتقالي لهذه الشقة التي تقع في حي صلاح الدين الذي يقف أحفاده الأكراد الآن في وجه داعش القميء، ثم قررت مع هذه المعوقات أن تبقى هذه الخنفسانة رفيقة سكني وصديقتي، وقررت هكذا أن الخنفسانة هذا الكائن الذي لا ينظر للساعة ولا يهمه يوم الساعة يحب الفاصوليا الحمراء، هكذا قررت مثلما قررت ذات مرة أن الأصدقاء هم النسخة المقلدة والخديجة للأعداء بدون قصد منهم . خيط الصابون الأبيض الذي امتد من وجهي أمس الصباح وأنا أغسله وطرطش على المرآة الخاصة بحمام الشقة تحول لخيط داكن ووسخ هذا الصباح يمتد على مدى الربع الأخير من المرآة المتصل بمغسلة ذات لون فرائحي، ابتسمت للرجل الذي يظهر في عصَار معجون الأسنان بابتسامة تسويقية خاوية فقدت صدقيّتها مع تكرار الصباحات ، ثم رفعت قدادة القماش السوداء بيدي الاثنتين لربطها على رأسي وتغميم عيني، الفكرة اقتبستها من فيلم فرنسي للتو شاهدته كان بطله لا ينام إلا بعد أن يربط غمامة سوداء على عينيه الزرقاويين يبدو أنه يعاني قلقاً يحسره دون التماهي مع تفاصيل حياته، عندما كنت أشاهد الفيلم حاولت للمرة الألف تدريب الخنفسانة على المرور من أقصى يدي اليمين إلى أقصى يدي اليسار بعد أن أمدّ يدي أفقياً على مستوى الكتف، إلا أن الخنفسانة تسقط بعد المسير لسنتيمترات قليلة، بالرغم من ما أتبرع لها من صوتي الركيك من أغاني فيروز المكرمة، والحقيقة أنني لا أفقه الهدف من ذلك ، فماذا سأحقق مثلاً من أن خنفسانة سوداء لا تمتلك عينين واضحتين لا تظهر عليها مشاعر اللحظة عبرت امتداد يدي اليمين ثم ذراعي الأيمن ثم عبرت كتفي اليمين ثم تجاوزت رقبتي ثم مرت بسلام من فوق عضلات كتفي اليسار ثم سارت بمهارة على عضدي اليسار فدخلت مجال ذراعي اليسار ووصلت لكف يدي اليسار ووصلت لنهاية أطرافي اليسرى، لا أعرف ماذا استفيد ؟!. ما إن وضعت رجلي على أول متر خارج شقتي الجديدة حتى أعلنت الضوضاء سطوتها في الحي وكل الرياض وكأنني ضغطت برجلي اليمين زرها المستعد دوماً لصراخها الذي يخسر كل يوم في معركة البهوت، لم أقدّم أطراف يديّ لتفادي مفاجآت طريقي ولم أخفف من سرعة خطواتي بالرغم من أنني قد ربطت عيني بالقدادة السوداء كنت قد صنعتها من منشفة سوداء متقادمة، بعد مشي لمدة ثلاث دقائق حسب ساعتي البيولوجية تنبهت حواسي الأربع بأن (أبو صالح) سيمر الآن في طريقه من المسجد بعد صلاة عشاء طويلة وممطوطة إلى بيته الذي يصل لمستوى قصر، بالفعل بدأ يتسلل لأذني وأنا المغمم العينين صوت ارتطام (زبيرية) أبو صالح بحصى جمعته الصدفة على الممر المزفلت بين باب المسجد وبوابة قصره الذي تشاركه سكناه زوجته اللبنانية التي اختارها امتداداً لعلاقته مع تمر السكري والخلاص التي بدأت منذ أربعين عاماً في (عنيزة) بمنطقة القصيم، عندما وصل صوت الارتطام ذروته عرفت أن ابو صالح وازى جسده جسدي فألقيت عليه التحية فلم يردها كعادته، بعد دقيقة إضافية من المشي المظلم سمعت صوت هسيس الماء المنصب من الخرطوش الذي يمسكه سواق أم عاصم الأرملة (راجاي) الفلبيني لري الأزهار المحيطة بقصر الأرملة الذي دائماً ما يجتمع في اللحظة الفاصلة بين يوم وآخر في أذني صوت الموسيقى الساهرة الصادر منه وصوت ارتطام زبيرية أبو صالح، مشيت دقيقة أخرى وعبرت الشارع المزدحم بمنبهات السيارات وصرير كفراتها وطنين محركاته دون أن تصدمني أي سيارة بالرغم من أنني رابطٌ عيني بقدادة منشفتي القديمة والسوداء، ذهبت للفوال وشريت فولاً وحين خرجت أضفت طاقة نظري إلى نظر خمسة رجال كانوا ينظرون إلى جسم امرأة ريانة، ثم مررت بالخباز ودخلت في طابوره المتعرج واشتريت خبزاً بريال، كان صوت التلفاز الساخن والملطخ في أجزائه بعجين الخبز والحياة يحاول أن يقنعنا بأسباب حرب الخليج الثانية، ثم ذهبت للسوبر ماركت بخطى سريعة حتى لا يبرد الفول فينقل برودته لفكري وأعصابي وجوعي، واشتريت فاصوليا حمراء للخنفسانة.