خرجت مدينة جدة في مدة قياسية لاتزيد على العامين من كونها مدينة بحرية جميلة لتترشح لاهتمام ملحوظ في الفن العالمي. وتترقب اليوم بكل حماسة الحدث الثقافي الفني الثاني في 21 يناير بعد النجاح الكاسح لهذه الفعالية العام الماضي . مايثير هنا هو أنها حكاية وفاء للبلد وإيمان بإبداع إنسانها، ولتقصيها نرجع لعامٍ مضى، للبصيرة المستقبلية في الدعوة التي وَجَّهتها مؤسسة المنصورية للثقافة، ممثلة في الأميرة جواهر بنت ماجد بن عبدالعزيز ،التي ترعى الفنانين منذ تأسيسها عام 1999 وتملك أهم مجموعة للفن الحديث تبلغ 400 عمل، دعوة توجهت للنخبة من أهل جدة المهتمين بالفن، وذلك لتشكيل مجلس فني سعودي. برئاسة جواهر بنت ماجد انعقد المجلس من فئات مختلفة ضالعة في الساحة الفنية سواء من مقتني الفن مثل فيصل تمر وسارة علي رضا المعروفين بشغفهما بالفن ودعمهما للفنانين، أو من القائمين على صالات العرض الفاعلة دولياً مثل محمد حافظ العاشق للفن والذي اُنتخب نائباً لمديرة المجلس وشريكه حمزة صيرفي المتكرس عبر تاريخه للفن حين كان الفن لايشكل حرفة ليستمر في رعاية المواهب الشابة. وعيسى بوقري المخرج السينمائي المتوقد المشهور بدعاية (اقم صلاتك)، ونهار النصار الدينمو الإبداعي ومهندس التصميم الداخلي، والفنانة نادية الزهير وبسمة السليمان مؤسسة بسموكا المتحف على شبكة الإنترنت، وعبدالله التركي ساحر العلاقات الدولية الفنية وعضو المجلس الاستشاري بالتيت جاليري، بالإضافة للخريجات الجدد من جامعات عالمية للفن مثل حياة شبكشي ورنيم فارسي وآية علي رضا وشريفة السديري وسارة بن لادن التي هي حالياً عضوة استشارية في مركز جورج بومبيدو للفنون بباريس. كما انضمت للمجلس مؤخراً منى خزندار المديرة السابقة لمعهد العالم العربي بباريس. ولقد تبرع الأعضاء ليس فقط بجهودهم الملحوظة وإنما أيضا قدموا مساهمات مادية سخية لتمويل أنشطة المجلس غير الربحية. واستجابة لهذه المبادرة الحضارية الجدية تداعت مدينة جدة بتركيبتها الاجتماعية التكافلية، وذلك بتقديم التبرعات لتمويل الفعاليات المخطط لها. فئة من المتبرعين الأفراد لا يطمعون في ظهور ولا دعاية ، وخلاصة غايتهم دفع التظاهرة الفنية لتعطي ثماراً فعالة مغيرة. تلبية شاملة على كافة الأصعدة وفي ظاهرة تضامن أهلي لم يسبق لها مثيل، وحول محور وهدف ثقافي هو الفن، إذ لم يسبق وكانت الثقافة مجالاً لاستقطاب مثل مشاعر الانتماء هذه. لكأنما كانت جدة بانتظار محرك وجاء المحرك في دعوة المجلس الفني السعودي. ورهانه الثقافي، وتقدم المجلس بنخبته المتحمسة للإبداع بمعطيات حديثة ترقى للمستويات العالمية، ونظم ما عرف بتظاهرات 21،39 الفنية فبراير و حتى إبريل 2014. وشملت التظاهرة عقد معرضين محوريين بعنوان (معلقات) و( الماضي كمقدمة ) بمركز جدة قولد مور، ومعرض (حَلِّق بفنك) ويتمثل في كوكبة من البالونات أطلقها الأطفال في سماء كورنيش جدة في فبراير 2014، عشرات البالونات تلحقها أعين الأطفال المبهورين بالرسوم التي أبدعوها، ويمكن اعتبارها رمزاً للفعاليات التي ينظمها المجلس الفني السعودي، فهي دعوة للتحليق بمقدرات المبدعين في هذا البلد، هي عمليات حثيثة لتحفيز للتحليق الإبداعي. وانضمت لتلك التظاهرة معارض لجاليريهات متعددة تحمست للمشاركة من أنحاء المملكة بأعمال فنانين من مختلف الأجيال الفنية، وعزز ذلك برنامج حافل للمؤتمرات وورش العمل، وأنشطة تفاعلية مع الجمهور وخاصة الأطفال واليافعين، وفناني الشوارع (الجرافيتي) الذين قاموا بإبداع جدارياتهم على حوائط منتقاة بقلب المدينة تفاعلاً مع الجمهور العريض. ونظمت زيارات للضيوف الدوليين الذين استضافهم المجلس لتعريفم بمعالم مدينة جدة؛ قلبها التاريخي ومتحفها المفتوح وزيارة المواقع الأثرية بمدائن صالح. وتزامن ذلك مع إصدار دليل الفن السعودي المعاصر المُعَد من قبل مجلة كانفاس، وهي المجلة الأهم المتخصصة بمتابعة الفن في الشرق الأوسط. هذه التظاهرة الشاملة كانت المناسبة التي أبهرت المهتمين العالميين، فعبروا عنها بقولهم: "لاتتميز هذه الحركة الفنية فقط بشمولها لموجة من فنانين يحاولون إبداع أعمال مميزة، وإنما أيضاً بوجود أناس قادرين وذوي بصيرة خلفهم، يبذلون ما في وسعهم لحمل رسائل أولئك الفنانين للعالم." إنها باختصار حركة متكاملة وتبشر بالكثير. فهي تظاهرة كل ما فيها محلي ولكن بمستويات عالمية، ابتداءً من اسمها 21،39 الذي يوافق الإحداثيات الجغرافية لمدينة جدة مما بشر بوضع المدينة على خارطة الفن العالمي، وانتهاءً بالمشاريع الفنية التي تطرحها للمتلقي المحلي وتحشد لها المهتمين من المملكة وأنحاء العالم. إذ تستقطب سلسلة المعارض المتزامنة نخبة من نقاد الفن والقائمين على المتاحف والفنانين، بل ونجحت في استقطاب 15000 زائر. ومنذ انبثاقه في فبراير الماضي، لم يكف المجلس الوطني عن إحداث حراك ثقافي وفني نوعي، فلقد نظم لزيارات لطلبة المدارس وإشراكهم في ورش عمل فنية نظمها الفنانون لتحفيز الإبداع لدى الناشئة، محققاً أرقاماً قياسية في عدد الطلبة والطالبات المشاركين خلال الفترة من فبراير وحتى شهر إبريل 6000 من 150 مدرسة. و بلغت تكلفة ذلك البرنامج 400000 ريال. و لقد كان عاماً حافلاً بالحراك التفاعلي الإبداعي، حيث حرص المجلس بالتنسيق مع إلادارات المختلفة ووزارة التعليم على تفعيل الفن لدى الناشئة والتحفيز على تبني الفن كوسيلة تعبير وتطور، كما ساهم المجلس الوطني في تفعيل المشاعر الوطنية بمناسبة الاحتفالات باليوم الوطني، وذلك حين قام في سبتمبر الماضي بالتنسيق مع وزارة التعليم بإشراك 3668 طالبا وطالبة في مسابقة للرسم، بعنوان (وطني بعيوني). ولقد تم اختيار عشرة أعمال فائزة من كل فئة عمرية، وتوزيع جوائز محفزة للجميع للتعبير عن الوطنية فنياً. حراك ثقافي مشهود رشح مدينة جدة لتكون واحدة من أهم مراكز الفن في لشرق الأوسط، جنباً إلى جنب مع بيروت والشارقة حسب رأي كريس ديركون Chris Dercon مدير التيت جاليري للفن الحديث بلندن، الذي يعد أهم مراكز الفن في العالم و أكثرها زواراً. فالفن كمايقول: "هو تعبير شخصي لأفراد ، لكن مجموع تلك التعبيرات الفردية تلخص هوية الأمم." ومن هنا تأتي حيوية ما يقدمه المجلس الفني السعودي الذي لم يتوان أفراده عن التطوع بجهودهم الشخصية وأموالهم للمضي أبعد بهذه التقدمة الوطنية الحولية. وهي التركيبة المجتمعية الخاصة لمدينة جدة التي أشاد بها قيام المتاحف العالمية التي ترشحها لتكون محوراً هاماً للفن عالمياً، فهذه هي حكاية جدة ومشروع عائلات جدة، منهم وإليهم، وإنها لتجربة تستحق الاحتذاء من بقية المدن بمملكتنا الغنية بالطاقات الإبداعية المتميزة.