تحركت الولاياتالمتحدة بخطى وئيدة لإعادة بناء خياراتها الأمنية في العراق، مقتربة مما كانت بصدد تحقيقه قبيل انسحابها في نهاية العام 2011. وارتبط التحرك الأميركي الجديد برؤية أوسع مدى لتحديات الأمن الإقليمي، وفي المقدمة منها الخطر الذي يُمثله تنظيم "داعش"، والتنظيمات المماثلة، والتي تمكنت من توطيد مواقعها في كل من سورية والعراق، واتجهت لتهديد الأردن، والمنطقة عامة. وفي إطاره الكلي، يشير تحرك الولاياتالمتحدة الراهن حيال بلاد الرافدين إلى التزام أميركي بأمن الخليج، الذي لا يُمكن مقاربته دون عراق مستقر. إن كلاً من الأردن والكويت هدف قادم معلن عنه لدى تنظيم "داعش". وإذا صحت رواية امتلاك هذا التنظيم لصواريخ "سكود"، كما أشارت صور استعراضه العسكري في مدينة الرقة السورية، فهذا يعني ببساطة أن الأردنيين والكويتيين باتوا في مرمى النيران. في هذا الاستعراض، الذي جرى في حزيران يونيو 2014، ظهرت أرتال طويلة من الدبابات والآليات المدرعة، والصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، ومدافع الميدان، والرشاشات الثقيلة، وسيارات هامفي، وغيرها من المعدات، التي جرى الاستيلاء عليها في مدينة الموصل، ونقلت لاحقاً عبر الحدود إلى الأراضي السورية. وإن نقل تنظيم (داعش) للدبابات والآليات المدرعة من العراق إلى دير الزور والحسكة، ووصولها بعد ذلك إلى مدينة عين العرب – كوباني في شمال حلب، يشير، على نحو لا لبس فيه، إلى إننا بصدد انسياب متعاظم للأخطار والتحديات، على مستوى لم نكن قد وصلنا إليه قبل بضعة أشهر خلت. إن الروايات أو المقاربات العسكرية التي شرحت أسباب سقوط محافظة نينوى العراقية قد تركزت حول أمرين: الأول، تشتت قوات الجيش العراقي بين عدد كبير من المناطق الساخنة، والثاني محدودية التسليح والعتاد المتاح لديها. وعلى سبيل المثال، عندما هاجم مسلحو تنظيم "داعش" الموصل، كان أفضل سلاح متاح للجندي العراقي المتواجد هناك هو الرشاش المتوسط (BKC) عيار 7.62 ملم، في حين اعتمد المهاجمون على أسلحة من عيار 14.5 ملم، مقاومة للطائرات وتحمل على العجلات – وفق شهادة أحد الضباط العراقيين. ويطرح هذا الأمر السؤال مجدداً حول واقع الجيش العراقي، الذي لازالت تنقصه الكثير من الإمكانات التسليحية. وكان العراق قد خرج من الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 وهو يمتلك ما يزيد على مليون عسكري، منظمون في 57 فرقة، بين مدرعة وآلية ومشاة اعتيادي وقوات خاصة. وكان عدد دبابات القتال الرئيسية لديه 5100 دبابة، إضافة إلى 2300 قطعة من مركبات المشاة المدرعة، و6800 من مركبات القتال، وكانت لديه قوة صاروخية تصل مدياتها إلى 650 كيلومتراً وأكثر من ذلك. وقد تغيّر وضع القوة العراقية على نحو جذري بعد حرب الخليج الثانية، التي أوجدت معادلة أمنية جديدة، بدا فيها العراق وقد فقد دوره الاستراتيجي الوازن. وكان من نتيجة ذلك أن سعت القوة العسكرية الأميركية في الخليج لموازنة القوة الإيرانية، التي أُريد احتواؤها، كما العراق ذاته. هذا العراق المتحوّل، أعيدت صياغة بيئته السياسية والاستراتيجية مرة أخرى، عندما أسقطت القوات الأميركية والبريطانية، في التاسع من نيسان أبريل 2003، حكومة الرئيس العراقي صدام حسين. واعتباراً من ذلك التاريخ، جرت إعادة بناء شاملة للعلاقات الأميركية العراقية، التي يُمكن وصفها اليوم بالاستراتيجية. وربما لم تتوقع الولاياتالمتحدة، والسلطات العراقية ذاتها، أن العراق قد يدخل مرحلة أمنية كالتي يشهدها اليوم، ولذا جاء الانسحاب الأميركي على النحو الذي عرفه الجميع. وليس من المفيد كثيراً الحديث اليوم عما كان يجب أن يحدث في الأمس القريب، إلا أنه من الضروري البحث فيما يُمكن للولايات المتحدة عمله من أجل العراق، الذي يبقى مستقبله مرتبطاً بصميم أمنها القومي، بالعديد من المعايير. في هذا الإطار، يُمكن أن تلعب الولاياتالمتحدة الدور المركزي في بناء قدرات العراق التسليحية، وتدريب قواته الأمنية. وهذه قناعة انتهى إلى القول بها اليوم كل من العراقيين والأميركيين، على حد سواء. وفي العاشر من تشرين الثاني نوفمبر 2014، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عن نشر أول قوة عسكرية أميركية في محافظة الأنبار بغرب العراق، مكونة من خمسين عسكرياً، يسبقون عدداً أكبر من الجنود، سيدعمون سوية العراقيين في مواجهة جماعات العنف المسلّح، وفي المقدمة منها تنظيم "داعش". وهذه هي المرة الأولى التي ينتشر فيها جنود أميركيون في محافظة الأنبار، منذ أن قررت الولاياتالمتحدة إرسال مستشارين عسكريين إلى العراق قبل بضعة أشهر. وجاءت هذه الخطوة بعد يومين من موافقة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على نشر قوة إضافية في بلاد الرافدين، قوامها 1500 جندي، بناء على طلب الحكومة العراقية، الأمر الذي سيرفع تعداد القوات الأميركية في العراق إلى أكثر من ثلاثة آلاف عنصر. ويدرك الأميركيون، دون ريب، ضخامة المهمة التي تنهض بها القوات العراقية، التي جاؤوا من أجل مساعدتها. فإضافة للحرب الدائرة في المدن والبلدات العراقية في الشمال والغرب، برزت أيضاً معركة كبيرة، عنوانها الحدود والتخوم، ضد عناصر تنظيم "داعش"، التي أعلنت سيطرتها على منفذي طرابيل والوليد، مع الأردن وسورية على التوالي. وذلك قبل أن تعلن بغداد استعادتها السيطرة عليهما. وقبل سنوات من الآن، وتحديداً في 16 تموز يوليو 2010، أعلنت وزارة الداخلية العراقية عن وضع خطة لتشكيل قوة طيران الشرطة، بهدف مراقبة المنافذ الحدودية. وفي أواخر العام 2011، كانت الوزارة تمتلك 820 مخفراً حدودياً متكاملاً. ومن المشكلات التي ظلت تواجه قوات أمن الحدود تلك المتعلقة بكيفية التعامل مع القرى الحدودية المتاخمة للبلدات السورية، حيث تتداخل الأسر والعوائل تداخلاً وثيقاً، ويبدو تنقل الأهالي على جانبي الحدود، كما لو كانوا ضمن مدينة واحدة. وعلى وجه خاص، تتداخل العوائل بشدة في منطقة الجزيرة، بين نهري دجلة والفرات، حيث تنتشر خصوصاً قبائل شمر، التي يتوزع أبناؤها بين محافظتي نينوى العراقية والحسكة السورية. وينطبق الأمر ذاته على محافظتي الأنبار ودير الزور. وربما بدا تداخل العوائل في هذه المنطقة أكثر تأثيراً على مجريات الحياة العامة في البلدين. وهذا ما أثبتته تطورات الأحداث في العراق منذ العام 2003. وتعتبر كل من الأنبار ودير الزور محافظتين رئيسيتين في العراق وسورية، على التوالي. فالأولى تشكل أكبر المحافظاتالعراقية من حيث المساحة، (ثلث مساحة البلاد)، والثانية تُعد مركز الصناعة النفطية السورية، كما أنها ثاني أكبر محافظات سورية مساحة، بعد محافظة حمص. ويعتبر معبر القائم/البوكمال المنفذ الأهم على مستوى الحركة البشرية بين العراق وسورية، في حين يُعد منفذ الوليد الممر الرئيسي لحركة السلع والبضائع بين البلدين. وهو يعد من أهم طرق التجارة الزراعية والغذائية في الشرق الأوسط، ويقع بالقرب من مثلث الحدود العراقية – الأردنية – السورية، ويعتبر الأقرب إلى دمشق، لكنه ذو طبيعة صحراوية، حيث بادية حمص. وفي الوقت الراهن، يخوض العراق معركة الحدود ارتكازاً إلى قدراته البرية بالدرجة الأولى. ويأتي دور سلاح الجو وطيران الجيش في المرتبة الثانية، وذلك لافتقار العراقيين لمروحيات هجومية حديثة، وكذلك محدودية الطائرات المسيّرة المتوفرة لديهم. وهذا فضلاً عن افتقادهم لأية منظومة استطلاع فاعلة. وقبل نحو عام من الآن، وتحديداً في 27 كانون الثاني يناير 2014، أبلغت ادارة الرئيس أوباما الكونغرس بخططها لبيع مروحيات عسكرية هجومية للعراق من طراز "أباتشي"، لمساعدتها على مواجهة تنظيم "داعش". وكان العراق قد اشترى من الولاياتالمتحدة مجموعة متنوعة من الطائرات العسكرية الحديثة، منها 12 طائرة تدريب وقتال من طراز (Cessna-172/T-41)، وسبع طائرات من طراز (Comp Air-7SL)، وعشر طائرات من طراز (ISR King Air-350)، التي تجمع بين مزايا الطائرات المسيّرة والطائرات المأهولة، على مستوى المراقبة الجوية وإطلاق الصواريخ الموجهة بالليزر. وشملت الأسلحة الأميركية الجديدة التي اشتراها العراق 75 صاروخاً من نوع "هيل فاير". وهذه الصواريخ يجري تثبيتها أسفل أجنحة طائرات(Cessna)، ثم تطلق على المواقع المستهدفة. وشملت الأسلحة الجديدة أيضاً طائرات استطلاع مسيّرة من نوع "سكان إيغل"، وثلاثة مناطيد من نوع "أيروستات" المزوّدة بالمجسّات، وثلاث مروحيات استطلاع، كما تقرر إرسال 48 طائرة استطلاع بدون طيّار من نوع "ريفن"، قبل نهاية العام 2014. وعلى صعيد الأسلحة البرية، تمثلت الخطوة الأهم في بيع الولاياتالمتحدةالعراقيين دبابات أبرامز (M-1A1 Abrams)، التي تنتمي للجيل الثالث من دبابات القتال الرئيسية. ويتوقع أن يصل عدد هذه الدبابات لدى الجيش العراقي إلى 700 دبابة بحلول العام 2018. ومبدئياً، فإن المطلوب الآن هو الإسراع في تزويد العراق بمروحيات "أباتشي"، ومنحه طائرات مسيّرة متعددة المهام، ومنظومة استطلاع أكثر تطوّراً من تلك المتاحة لديه. كذلك، لو كان العراق قد حصل على مقاتلات (F-16) لما احتاج، على الأرجح، إلى طلب توجيه ضربات جوية للمجموعات الإرهابية، فهذا الجيل المتطوّر من المقاتلات الحربية قادر على إحداث فرق جوهري في المعركة. ومتى نجحت إدارة الرئيس أوباما في المضي قُدماً في برنامجها الخاص بتسليح القوات العراقية، فإنها ستكون قد حققت خطوة كبيرة على طريق صيانة الأمن الإقليمي، وخفض منسوب التوترات والأخطار الكبيرة التي تحدق بالشرق الأوسط. تحية طيبة