سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نعم .... الخلل في الإزدواجية اللغوية يرمي بظلاله على الخلل في الشخصية العربية
بعد ترجمته كتاب (مقدمة في اكتساب اللغة) ... د.ماجد الحمد ل«ثقافة اليوم»:
نشر في الرياض يوم 13 - 10 - 2005

يأتي في طليعة الجيل النخبوي الشاب المسكون بقضايا اللغة واكتسابها إذ فور حصوله على درجة الدكتوراة من جامعة إسكس في بريطانيا في «اكتساب اللغة» شرع في إثراء المكتبة العربية بما استجد في هذا الشأن الحيوي فأنجز ترجمة لم تنشر بعد لكتاب (مقدمة في اكتساب اللغة) لسوزان جاس، ولاري فلنكر.
إنه الدكتور ماجد الحمد، الأستاذ المساعد في جامعة الملك سعود، حيث التقته «ثقافة اليوم» ليطلعنا عن كثب عن منجزه القيّم وهمومه البحثية القادمة وأي شيء يضمره للمكتبة العربية من دراسات. الحديث يمتد إلى آفاق لغوية وثقافية وحضارية نستكمل مداراتها خلال هذا الحوار.
٭ نلت درجة الدكتوراه من جامعة إسكس Essex في بريطانيا في «اكتساب اللغة». ما هو الهم الذي يحمله د.ماجد للغته ووطنه؟
- دعني استعمل كلمة أكثر التصاقاً بما أمارسه فعلياً، وهي كلمة الاهتمام (وليس الهم) لأقول لك إن الاهتمام باللغة ومجالها الواسع تعليماً وتعلّماً وصولاً إلى ممارستها كتابة في ألوانها المختلفة شعراً ونثراً؛ كان متواصلاً قبل دراسة الدكتوراه وأثناءها، وهو مستمر بعد الرجوع والانغماس في العمل التعليمي والعلمي. والاهتمام باللغة، وخاصة اللغة العربية، يتخذ محورين اثنين: على المستوى الشخصي، وذلك بالارتباط العضوي بأدبها وروائعها النثرية والشعرية، وعلى المستوى العلمي، وذلك بمحاولة تطويع المناهج البحثية والعلمية التي حصلتُ على شيء منها أثناء دراستي، لتلائم تعليم اللغة العربية، وخاصة في مستواها الفصيح، وإيجاد حلول لمشاكلنا اللغوية، خاصة فيما يتعلّق بالازدواجية اللغوية التي نعيشها يومياً، وهي آخذة في الاتساع والهيمنة على مستويات لغوية أفقياً وعمودياً.
ولعل التخصص الذي أحمله، وهو «اكتساب اللغة»، يستند في مضمونه الخالص إلى جانبين متلاصقين: جانب نظري يتعلق بالنظريات المختلفة حول اللغة وطبيعتها وكيفية اكتسابها (أو تعلمها إن أردت) من جهة، وجانب تطبيقي ينظر إلى الزوايا الكامنة في تلك النظريات، التي يمكن أن نفيد منها في تعليم اللغات عموماً، أو في معالجة بعض المشاكل الواقعية لمجتمعات لغوية بعينها. وهذا ربما يفيدنا أيضاً في إلقاء الضوء على مفهومنا نحن للغة ولاكتسابها، ومراجعة هذه المفاهيم، وإعادة النظر فيها، أو تعديلها في أقل تقدير، في سبيل الحصول على ما يرجوه كل مهتم بالعربية الفصحى، وكل حريص على الفكر اللغوي والعلمي في المجتمع.
وربما كان هذا كله سبباً في توجيه اهتماماتي العلمية منذ رجوعي إلى جامعة الملك سعود أستاذاً مساعداً فيها. إذ شرعتُ، بدعم مشكور من جامعة الملك سعود ممثلة في مركز الترجمة، في نقل مقدمّة إلى اللغة العربية حول الاكتساب اللغوي من اللغة الإنجليزية. وقد كُتبت هذه المقدمة في 450 صفحة تقريباً، واحتوت على ما تحتوي عليه المقدمات في العلوم المختلفة، من نظرة شاملة لأهم الأسس والمبادئ التي يقوم عليها مفهوم اكتساب اللغة، إن اللغة الأولى، حيث تطرق الكتاب في بعض فصوله إلى كثير مما يتعلّق باكتساب الأطفال لغاتهم الأولى من الأمهات والآباء أو من هم في مقامهم؛ أو اللغة الثانية حيث تناول الكتاب قضايا اكتساب اللغات الثانية سواء في مرحلة الطفولة، حيث يكون الطفل ثنائي اللغة: أي يعرف لغتين أو أكثر معرفة متساوية تقريباً بحيث تمكنه من استخدامها الاستخدام ذاته، أو استخداماً متفاوتاً؛ أو في مرحلة النضج أو الرشد في الصفوف الدراسية أو من الانغماس في مجتمع اللغة الثانية. ولعلّ ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية يكون فاتحة لبحوث أخرى تفيد اللغة العربية بشكل عام والمجتمع اللغوي في المملكة بشكل خاص.
٭ ما هي الحلول الإجرائية الممكنة للقفزة بتعليم اللغة العربية؟ وهل ثمة مشاريع جادة قابلة لأن تُطبق وتُبسّط على مساحة الواقع؟
- لعلّ البداية الجادة تقود إلى حلول جادة للقفز بتعليم اللغة العربية، وقبل ذلك للقفز بالاهتمام باللغة العربية على مستوى المؤسسات العامة والخاصة، وقبل ذلك على مستوى أفراد المجتمع اللغوي أنفسهم: أي الأفراد الذين يتكلمون بهذه اللغة ويهمهم أمرها. والبداية الجادة أظنها تنطلق من بداية التعليم الأولى، أي الابتدائي، إن لم نقل من التمهيدي والروضة، أو حتى منذ الأشهر الأولى لعمر الطفل. فمن المعروف أن الأطفال يبدؤون في اكتساب اللغة خلال السنوات الثلاث الأولى من أعمارهم، حيث يستمعون إلى اللغة منذ الولادة، ثم يبدؤون تحديداً في مجاراة الكبار في كلامهم وإنتاج اللغة حين بلوغهم سنة وستة أشهر. ويكادون يكتسبون معظم التراكيب اللغوية مع بلوغهم سنتين وستة أشهر، فالثلاث سنوات الأولى هي المرحلة الذهبية لاكتساب الطفل لغته الأم. وغالباً ما يكتسب الطفل لدينا في مجتمعنا لغة والديه، وهي بطبيعة الحال اللهجة العامية، إذ نادراً ما يتكلم الوالدان بالعربية الفصحى عند الحديث مع طفلهما. فلو توفّر الوعي لدى الأمهات والآباء بهذه الحقيقة التي تجري أمام ناظريهما مع كل طفل يُرزقان به، مع ترسيخ أهمية اللغة العربية الفصحى لدى المجتمع بكل أطيافه وفئاته، إضافة إلى توفير الوسائل والبرامج والدورات التدريبية معتمدة الفصحى في الكلام والكتابة، والاستماع والقراءة، لكان الأمر مختلفاً عند تعليم اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا. ولما كانت الشكوى من ضعف الطالبات والطلاب في اللغة العربية متصدرة جدول أولويات المهتمين بالتعليم في بلادنا، سواء أكانوا مسؤولين أم أولياء أمور. فالمبدأ المهم هنا هو أن اللغة تُكتسب اكتساباً ولا تُلقن تلقيناً، والفترة الذهبية لاكتساب اللغة هي مرحلة الطفولة، وأولها أفضلها، تتناقص هذه الأفضلية كلما اقتربت الطفولة من نهايتها. فإذا عملنا على أن يكتسب أطفالنا اللغة الفصحى كما يكتسبون اللهجة العامية، لأمكننا حينئذ أن نُخفف من هذه الحدة في التعامل مع مشاكلنا اللغوية في التعليم العام والجامعي. وهذا لا يعني أن نلغي اللهجة العامية ولا نتحدث بها مع أطفالنا، إذ إن الطفل لديه القدرة على اكتساب أكثر من لغة، أو أكثر من مستوى لغوي، كما هو في حالنا هنا، بالجودة نفسها والإتقان نفسه، أو يكادان يكونان متقاربين جداً. فما المانع أن يعرف أطفالنا العامية ويستعملوها، ويعرفوا في الوقت نفسه الفصحى ويستعملوها؟
٭ تنهض في كتابات وبحوث اللغويين المحدثين النظرية التوليدية لتشومسكي القائلة بقدرة الإنسان على إنجاز أنماط تراكيبية جديدة... ما مدى مقبولية القاعدة اللغوية العربية لهذه الفرضية سيما أنها قد تشاغب الثوابت القاعدية؟
- بل على العكس، فهي تتسق مع الثوابت القاعدية في تراثنا اللغوي والديني. فإحدى النظريات في كيفية اكتساب أبينا آدم اللغة تستند إلى ما ورد حقيقة في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلها}، وقد فُسرت بأنه علَّمه أسماء كل شيء، كما ورد عند ابن كثير في تفسيره. أفلا يمكن أن ننطلق من هذه الآية لكي نخلص إلى أن أبناء آدم، الذين هم ذريته من بعده، قد ورثوا هذا من أبيهم آدم، فأُودعت فيهم هذه القدرة على تعلم اللغة، أو اكتسابها إن أردت؟ إن البحث عن إجابة لهذا التساول هو أمر جدير، سيما أن المشاهدات اليومية لاكتساب الأطفال لغاتهم الأم هي داعمة لهذه النظرية ومؤيدة لها. يبقى أن ننظر في هذه المسألة من زاوية تراثنا اللغوي والتفسيري بشكل خاص، والعلمي بشكل عام، فلربما وجد باحث جاد إشارات إيجابية أو سلبية في هذا الخصوص. أو ربما وجد شيئاً يدفعه إلى التعديل أو الإضافة أو الحذف، أو حتى إلى إنشاء تصور ومفهوم مختلفين، لكنهما مدعومان بالدلائل والأدلة العلمية المقنعة. إن القبول والرفض للنظرية التوليدية يعتمد على البحث، والبحث العلمي من سماته الأساسية الجدية والموضوعية، فلماذا الحكم على هذه النظرية بأنها تشاغب الثوابت القاعدية لدينا، ولم يتوفر ذلك البحث الجاد الذي يلقي الضوء على ما نظنه شيئاً ليس هو على حقيقته.
٭ كيف تحاكم الفرضية التالية (الخلل في الازدواجية اللغوية يرمي بظلاله على الخلل في الشخصية العربية)؟
- لا شك في هذا عندي. فنحن نكتسب اللهجة العامية في صغرنا، وهي المحور في كلامنا والكثرة الكاثرة مما نستمع إليه في حياتنا اليومية. ثم تأتي اللغة الفصحى بعد ذلك، نتعلمها من المدارس، لتكون محور الكتابة والقراءة. فالمهارات اللغوية الأربع، وهي الكلام والاستماع من جهة، والكتابة والقراءة من جهة أخرى، موزعة على مستويين اثنين من مستويات اللغة: المستوى العامي والمستوى الفصيح. وبغض النظر عن اقتراب أو تباعد هذين المستويين اللغويين، تبقى هيمنة أحدهما على الآخر هو لبّ المشكلة في انتشار الازدواجية اللغوية، والأهم من ذلك ما يلقيه ذلك من خلل على الفكر والإبداع لدى الشخصية العربية. وللأسف فالحال لدينا أن العامية هي التي لها المساحة الأكبر في حياتنا اليومية. فهي ما يمكن أن نعدّها اللغة الأولى أو الأم، ثم تأتي اللغة الفصحى بعد ذلك؛ إن أردت أن تعدّه الغة ثانية، كما هي الحال لدى كثير من أبناء المجتمع، أو أنها لغة أم أخرى لدى عدد آخر منهم. ويكمن الخلل الذي ذكرته في سؤالك في أن اللغة الفصحى هي المستعملة في الكتابة والقراءة اللذين بهما تنشأ لغة الفكر والعلم لدينا، فيما تُستعمل العامية غالباً عند الحديث أو الاستماع في غير القراءة. والحلّ ليس في إلغاء أحد المستويين اللغويين للآخر، فوجود المستويات اللغوية، ومن بينها الفصحى والعامية، هو من طبيعة اللغات ذاتها في المجتمعات المتحضرة، كما أثبت ذلك علم اللغة الاجتماعي. كما أن الحلّ ليس في تحويل العامية إلى لغة كتابة وقراءة، وذلك فوق أنه يحتاج إلى وقت طويل جداً يصل إلى عشرات السنين إن لم يكن أكثر، ونحن ليس لدينا وقت طويل لنضيعه في ظل هذا التأخّر الحضاري عن الأمم الأخرى؛ هو حلٌّ مرفوضٌ اجتماعياً وثقافياً وحضارياً ودينيا لأسباب ليس هنا وقت التفصيل فيها. يبقى لدينا الحل الممكن في رأيي، وإن كان يحتاج إلى وقت وجهد وعمل دؤوب، يمكن أن نرى آثاره على المدى المتوسط في أقل تقدير. هذا الحل يكمن في جعل اللغة الفصحى لغة الكلام والاستماع بالدرجة نفسها التي عليها اللهجة العامية. وهذا سيجعل من العربية الفصحى، بالإضافة إلى كونها لغة الكتابة والقراءة، لغة متكاملة في أن تكون مهاراتها الأربع مهارات مكتسبة ومستعملة في الوقت نفسه لدى المتكلمين بها. إن الارتفاع بالشخصية العربية إلى المستوى اللغوي الفصيح هو هدفٌ سام سيوحد لغة التفكير، مما سيؤدي في رأيي إلى الانطلاق في مجالات الفكر والعلم والإبداع، الذي سيلقي بظلاله على الشخصية العربية إيجاباً وليس سلباً.
٭ (اللغة الواعية تؤسس لمجتمع واع)، هل تنهض الفصحى بدور اللغة الواعية؟ وأين العامية من هذه الحتمية؟
- بالتأكيد يمكن للفصحى أن تكون اللغة الواعية إذا ارتفعنا بها لمستوى المواجهة الحضارية والثقافية على جميع المستويات وفي كل الميادين. واللغة العربية الفصحى هي لغة واعية بلا شك، بمعنى أنها لغة طبيعية ثرية حضارية، يرفدها أربعة عشر قرناً من التراث اللغوي والإبداعي والعلمي المشهود له قديماً وحديثاً. بل هو تراثٌ إنساني عالمي، أفاد واستفاد على مستوى الأمم والحضارات الأخرى. أما حالها الحاضر فهو بأيدينا لا بيد عمرو، كما يقول المثل العربي. وقد أثر على مجتمعنا العربي بشكل عام تأثيراً لا يخفى أثره. وإذا أردنا أن نعتلي سلّم الوعي درجات أعلى، فينبغي علينا أن نُفسح المجال للفصحى لتكون اللغة المهيمنة لدينا، على مستويات الاستعمال اليومي والعلمي والأدبي والفكري عموماً. أما العامية، فوجودها حتمي، وهي من طبيعة وجود اللغات نفسها كما ذكرت سابقاً. ولكن يمكن ألا يكون لها دور في هذه الحتمية، كما أسميتها. فهي، وإن كان لها دورٌ في مجال الأدب والاستعمال اليومي، إلا أن دورها في مجال العلم والفكر النهضوي يكاد يكون معدوماً. فصحيح أنها لغة طبيعية، ولكنها ليست لغة حضارة وفكر كالفصحى. فلنا أن نضعها في موضعها الطبيعي كونها لازمة من لوازم وجود اللغات نفسها، ولكن ينبغي ألا تكون الهيمنة لها على حساب المستوى الفصيح من اللغة.
٭ هل تبني المبدعين والمثقفين الجدد للغة الحداثية على حساب التراثية شكل من أشكال النهوض بالفصحى وإكسابها العصري من حيث الأداء الصوتي والمرونة القاعدية الصرفية؟.
٭ ربما يساعد هذا في كوننا نسير في اللغة سيراً تاريخياً طبيعياً. بمعنى أن اللغة، أي لغة هي كائن حيّ ينمو ويكبر ويقوى ويزدهر، وربما يهرم ويشيح ثم يموت. وكونها كائناً حياً يعني في المقام الأول أنها متجددة بما يقتضيه المقام في العصر الذي تستخدم فيه. وفي رأيي أن تبني المبدعين والمثقفين للغة الحداثية هو دليل حيّ على طبيعيّة اللغة العربية الفصحى، إن كان هناك من لا يزال يشكّك في هذه السمة. ثم إن التغيّر الصوتي والصرفي والنحوي والدلالي، وسمِّه تطوراً إن أردت، هو من طبيعة اللغات الطبيعية، والفصحى واحدة منها بلا شك. أما أن يكون هذا على حساب اللغة التراثية، فهذا تفريقُ ما لا يُفرّق، أو فصل ما يُفصل. فالمعين الأصلي هو اللغة التراثية، واللغة الحداثية هي في توهجاتها الإبداعية، وسموّها الفكري والأدبي، صادرٌ عن ذلك المعين. وأنا هنا أتكلم عن الحداثيين الذين أثّروا في الساحة العربية خلال المنتصف الثاني من القرن الماضي وحتى اليوم. دع عنك الذين حاولوا أن ينسلخوا عن اللغة الفصحى بشكل عام، أو عن اللغة التراثية، أو لأكون أكثر تحديداً، عن المحتوى الذي تشتمل عليه اللغة التراثية، فألغوه أو أهملوه، أو لم يكن نقطة انطلاقهم، فهؤلاء كانوا نشازاً في إبداعهم أو حتى في تلقي المثقفين لهم.
٭ بما أن العربية هي الأكثر مقبولية في الشرق ... هل ثمة انتفاضة لغوية عربية تساوق الصحوة الشرقية بكافة تجلياتها؟
- لعل هذا ما ينبغي أن يتنبه له المخططون الاستراتيجيون في المجتمعات العربية. فإن صح أن العربية هي الأكثر مقبولية في الشرق، وربما تكون كذلك بسبب كونها لغة الكتاب الكريم الذي يحمله الدين الإسلامي إلى كل العالمين، فعلى المسؤولين على التخطيط اللغوي أن يعوا هذه المسألة وعياً تاماً، ليقيموا على أساسها تصوراتهم عن المستقبل القريب والبعيد. وبالطبع فهذا كله مرتبط بما تسفر عنه الوقائع والعلاقات السياسية بين دول العالم، ومن بينها دول الشرق. وهذا بالطبع يمكن توقعه، أو التنبؤ به إذا نظرنا إلى ما يفرزه الآخرون في الغرب والشرق على حدّ سواء عمّا سيكون عليه الحال في الثلاثين أو الأربعين أو حتى الخمسين سنة القادمة. ولعل الانتفاضة اللغوية العربية تبدأ أولاً من المجتمعات العربية نفسها، باختيار الشكل الذي يريد العرب أن تكون عليه لغتهم، لينطلقوا بها ومنها إلى الآخرين. وهذا يستتبع أمرين: أن يكون المضمون والمحتوى الفكري والحضاري للغة، على قدر من العلو والرفعة حتى يكون للغة التي تحمله تلك المقبولية التي تحدثت عنها في سؤالك. وهنا ينبغي أن تشترك فئات المجتمع كله في هذه المسؤولية حتى تتحقق النهضة التي تمكننا من تقديم أنفسنا للآخرين، وتمكنهم من قبولنا بالشكل المناسب. أما الأمر الآخر فهو أن نثبت أن مقبولية لغتنا لدينا هي في الواقع في المستوى نفسه الذي نرتضيه لها، ونطلب من الآخرين قبول لغتنا وهي غير مقبولة لدينا. ومقبوليتها هنا في نظري تقابل استعمالها وإنزالها منزلتها في الحياة اليومية وفي المستويات الحضارية والثقافية كذلك. وربما يكون هذا دافعاً لنا للاهتمام بنشر اللغة العربية تعلماً وتعليماً داخلياً وخارجياً. وربما خطت المملكة مشكورة خطوات كبيرة في هذا المجال، إلا أن مفهوم «انتفاضة لغوية عربية» التي وردت في سؤالك، تستدعي قفزات هائلة جبارة نحن أهلٌ لها إن كانت المقدّمات منطقية وعلمية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.