حتى لا يغرق العقل لابد من مواجهة التيارات الفكرية الأخرى التي تمحو هويتنا وقيمنا، فأنا هُنا لا أقصد(العزلة الإبداعية) المطلوبة أحيانًا ولكن أقصد (العزلة الفكرية الأبدية السرمدية ) عن أفكار وثقافات العالم، فالعزلة الفكرية الأبدية ليست حماية للعقل من أن تتخطفه الانتماءات الفكرية المختلفة يمنة ويسرة، وليست حماية لتصحيح بعض المفاهيم لبناء العقل بل هي فتحُ الجسور للآخرين، أن يتسلَّلوا من خلال النوافذ والأبواب وحتى من الشقوق وينشروا أفكارهم وتياراتهم وآراءهم. العُزلَةُ الفكرية لا تبني القيم ولا تصنع مثقفين قادرين على قمعِ الآراء الملحدة أو الأفكار الضالة، نحن بأمسِّ الحاجة لعقول مفكرة قادرة على استيعاب ما يُدار حولنا وما يُدبر لنا، نحن بحاجة لمن يقرأ ويثقف ويفكر ليعرف كيف يقرر ويخاطب ويقوي عقله وشخصه ولسانه للرد على الشبهات، قال محمد عليه الصلاة والسلام "الذي يخالطُ الناسَ ويصبرُ على أذاهم، خيٌر من الذي لا يخالطُ الناسَ ولا يصبرُ على أذاهم". لان الذي يخالط ويتأثر ويؤثر ويقرأ الثقافات الأخرى ويأخذ منها فيفيد نفسه ويفيد المجتمع، فيُميز بين الدين والإلحاد وبين الفضيلة والرذيلة وبين الفُسق ومكارم الأخلاق وبين الخير والشر وبين العدو والصديق وينبه مجتمعه بالأخطار المحدقة بهم، ويعرِّفهم أعداءهم، ويرشدهم إلى المسار المستقيم والفكر الصحيح، فلابد من قراءة كتب علماء الفكر والفلسفة ومجالسة العلماء، والشخصيات المؤثرة في المجتمعات ومعرفة طبيعة أفكارهم. فأكرر وأقول أنا لا أقصد العزلة الإبداعية والتأملية التي يحتاج إليها العقل بين الحين والآخر، والتي احتاجها ابن خلدون وابن تيمه وابن الجزري في كُهوفِهم ليستنطقوا التاريخ بكتاباتِهم فتقف تلك المؤلفات صفًا على مواجهة الفلاسفة والجهابذة الغربيين. إن العزلة الفكرية السرمدية لا تولد الأفكار ولا تربي المفكر بل تؤدي لحالة من الهلامية والضبابية في الأفكار والمعتقدات لذلك أنصح بقراءة كتب الآخرين ومعرفة انتماءاتهم الفكرية حتى يكون الإنسان ذا شخصية مفكرة مثقفة قادرة على رد شبهات الغير، فالأمة الإسلامية بحاجة إلى شخصيات تتكامل فيها جوانب الشخصية المسلمة، فتستطيع أن تعرف كيف توازن بين أفكار القيم والمبادئ وبين أفكار الانحطاط، وكيف توفق بين العلم والعمل، وبين الصبر واليقين، وبين الأخلاق الفاضلة والأخلاق المذمومة، نحنُ بحاجة لمن يستطيع أن يكتشف ويخطط ويبني ويؤلف ويكتب، ويناضل ويكافح ويوائم بين المجتمع وتاريخه وماضيه وتراثه وبين الأحداث المعاصرة من تيارات فكرية مختلفة وعلوم عصرية وأن يقدم لهذهِ الإنسانية التائهة الحائرة الحل لها ولكل مشكلة وهو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتوازن والتكامل في العقيدة والعبادة. قال عمر رضي الله عنه: (من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام). فالعزلة الفكرية هي الطريق الأول لسيطرة العلمانيين والملحدين وغيرهم من الأحزاب والتيارات المخالفة وحقن أفكارهم المخالفة للمنهج الربّاني في مجتمعاتنا، وفصلنا عن تاريخنا، وعزلنا عن واقعنا وماضينا وعن مصدر التشريع السماوي حتى أصبحت بعض العقول تتخبط ذات اليمين وذات الشمال تعيش على هامش الحياة يضيع معها الربّان بالركّاب. (رحم الله امرأً عرف زمانه واستقامت طريقته) وعرف ما يُحاك فيه من تيارات متمردة وما يموج فيه من أفكار ضالة، وما يضطرب فيه من الفتن وما يُحقن فيه من إنكار وجحود لأحكام الله.