" لقد تم إكمال هذا الإنجاز بالحكمة والعمل الدؤوب من أبناء اليابان!! " نقشت هذه الكلمات على حجر الأساس الخاص بتدشين أول رحلات قطار الرصاصة الياباني (شين كان سين) والذي بدأ عام 1964م برحلة بين طوكيو وأوساكا بعد تسعة عشر عاماً فقط من إسقاط القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي.. مقالة اليوم تستعرض التجربة اليابانية في صناعة القطارات وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة لبناء صناعة قطارات وطنية. نحن الآن في العام 1853م وقتها عاشت اليابان عزلة دولية بسبب قوانين تمنع السفر والتبادل التجاري والعلمي مع العالم إلا بحدود ضيقة مما أخر التنمية في البلاد.. في ذلك العام جاء مسؤول روسي إلى ميناء ناجازاكي ليطلب التفاوض على السماح لبلاده ببدء الحركة التجارية مع اليابان.. وأحضر في سفنه نموذج قطار مصغر لتكون تلك أول مرة يشاهد فيها اليابانيون القطارات. وفي العام التالي 1954م جاءت السفن الأمريكية هذه المرة إلى ميناء يوكوهاما لنفس الغرض تحمل معها أيضاً نماذج مصغرة للقطارات والتي مثلت صدمة تقنية لليابانيين لتنبئهم عن الفجوات الحضارية الكبيرة بينهم والدول المتقدمة. هذه الأحداث وغيرها مهدت لبدء عصر الميجي عام 1868م والذي كان أساس نهضة اليابان بعد الانفتاح على العالم والتوسع في افتتاح الجامعات وإرسال المبتعثين اليابانيين إلى الخارج وتعزيز التبادل التجاري والثقافي. وقررت القيادة الجديدة استحداث منظومة قطارات يابانية. وبعد دراسات مستفيضة اتخذ القرار بإلغاء عقد حكومة عصر الانغلاق مع أمريكا والاتفاق لتنفيذ المشروع مع بريطانيا والتي كانت أكثر تقدما تقنياً.. وبدأت أول عشرة قطارات مستوردة من بريطانيا العمل عام 1872م لتحقق أرباحاً تجارية خلال عام واحد فقط.. تلا ذلك استيراد قطارات من كل من أمريكا وألمانيا لتنويع مصادر التقنية. وبعد عشر سنوات من نهضة الميجي عام 1878م، بدأ اليابانيون تطوير مقطورة خاصة بالامبراطور حيث كان المحرك مستورداً من بريطانيا وتم التجميع باليابان بالإضافة إلى توفير المكونات الخشبية محلياً. وكانت تلك البداية لمقطورات مختلفة وفي كل مرة تزداد نسبة المكونات المحلية الصنع..أهم عامل خدم اليابان كان دعم الحكومة لدخول القطاع الخاص الوطني لصناعة القطارات في مطلع القرن التاسع عشر بشركات مثل ميتسوبيشي جيوكو، كاواساكي جيوكو، توشيبا وهيتاتشي وغيرها. تلا ذلك تأسيس مركز أبحاث وطني مختص بتطوير القطارات استقطب إليه خيرة علماء اليابان وتقنييها لتصل اليابان إلى العام 1964م ويتم تدشين أول قطار رصاصة (شين كان سين ) بسرعة 210كلم/ الساعة بتفوق كبير تجاوز الستين كلم/ الساعة عن أسرع قطار في العالم وقتها. ولعل من أهم الدروس المستفادة: 1) سياسات الانعزال عن العالم تعني صناعة فجوات حضارية مع الدول المتقدمة. 2) الابتعاث والاستثمار في التعليم والبحث العلمي خيار لا بد منه لأي دولة تروم التقدم والنهوض. 3) لا يمكن التفكير بتنمية كبرى دون تطوير قطاع صناعي وطني في مجالات التقنية العالية . 4) عند اتخاذ القرار بشأن ترسية المشاريع الكبرى كالقطارات فلا يكفي عامل السعر وحده بل يجب النظر لمستوى التعاون في نقل التقنيات وتوطينها. وأخيرا: الشهر الماضي وفي زيارة المتحف الياباني للسكك الحديدية، وقف رئيس المتحف يتحدث بكل بفخر عن الإنجازات التقنية وكفاح الجيل الياباني الذي طور أول قطارات الرصاصة اليابانية قبل نصف قرن مضى.. التفتُ إلى المبتعثين السعوديين الذين معي لأسألهم:" أيكم يأتيني بابتكارٍ أو إنجاز ٍ لوطنه ولأمته تفتخر به الأجيال من بعد مئة عام؟". ابتسم الشباب السعوديون وقالوا بكل هدوء وثقة: "انتظر وسترى ما سنصنع بعون الله !".