كشفت تقارير صحافية عن شهادة الطبيب السوري والأستاذ الجامعي وأستاذ بشار الأسد في جامعة دمشق محمود الكردي، أمام مؤتمر "أصدقاء سوريا"، والتي تحدث خلالها عن الوضع الإنساني في حي بابا عمرو تحديدا، مقدما صورة قاتمة للوضع الإنساني فيه، وفي سوريا بشكل عام. البروفسور الكردي كان شاهدا على تحول شخصية الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان أحد طلابه في جامعة دمشق. فبعد أن يصف سنواته كطالب بأنه كان في منتهى الدماثة والكياسة والاحترام، يقدم صورة معاكسة له بعد وصوله إلى منصب الرئاسة، إذ بدأت دماثته تقتصر على الموالين، قبل أن يتحول إلى "وحش كاسر". صحيفة "الشرق الأوسط" اجرت لقاءً مع الكردي، الذي كشف عن شهادته أمام المؤتمر بعدما أصبحت العودة إلى سوريا مستحيلة خوفا من أن يتحول إلى "كبة نيئة" كما قال. وفي ما يأتي نص الشهادة التي ادلى بها امام مؤتمر "اصدقاء سوريا": السيدات والسادة، تدل مهنتي، كأستاذ لجراحة أورام النساء، على أنني لست سياسيا. وقد نشأت في حي بابا عمرو، وأنا الآن في الخامسة والستين من عمري، وقد تخرجت في كلية الطب منذ 40 عاما. تركت سوريا وتوجهت إلى بريطانيا منذ نحو أربعة أسابيع في خضم القصف على حي بابا عمرو ومدينة حمص، وبقية المدن السورية. قضيت نحو 27 عاما من حياتي المهنية في بريطانيا، وكان معظمها في جامعة كامبريدج، حيث كنت أقوم بتدريس الطب هناك، كما قضيت 13 عاما في جامعة دمشق التي كنت أعمل بها كمدرس جامعي. وكان الدكتور بشار الأسد هو أحد تلامذتي في كلية الطب بجامعة دمشق عام 1987، ولكن رجاء عدم استخدام تلك النقطة ضدي. وعلى مدار الأحد عشر عاما الماضية، كان اهتمامي الأساسي، جنبا إلى جنب مع جراحة الأورام، هو تحسين الرعاية الصحية في الدول العربية. ومنذ أكثر من خمس سنوات، تم انتخابي عن طريق مجلس وزراء الصحة العرب لكي أقوم بتشكيل لجنة عليا تعمل على تقديم معايير تستند إلى أدلة وحقائق لكل العاملين في مجال الصحة في كافة التخصصات في جميع الدول العربية. وأتمنى أن يساعد الربيع العربي في إتمام تلك العملية بسرعة أكبر، ولكن ليس هذا هو الوقت المناسب لمناقشة تلك القضية. ولأسباب شخصية، لن أتطرق إلى دوري المتواضع في الثورة السورية على مدار العام الماضي، وأنا متأكد من أنكم سوف تتفهمون الأسباب. وقد أخبرني كل الذين قابلتهم من المدن والبلدات والقرى السورية التي تشهد الثورة السورية أن ما تراه على شاشات أفضل القنوات التلفزيونية لا يمثل 10 في المائة من الأهوال والفظائع التي ترتكب على الأرض في سوريا، ولا سيما خلال الثلاثة أو أربعة أشهر الماضية. وقد أصيب الصحافي بول كونروي في حي بابا عمرو، كما قام النظام السوري بفتح النار على عشرين شخصا أو أكثر وتم قتلهم أثناء محاولتهم تهريب الصحافي على نقالة للجرحى من بابا عمرو إلى لبنان. وقام كونروي بوصف ما حدث قائلا: «سوف يذكر التاريخ أن قصف مدينة حمص هو مذبحة لا تقل عما حدث في رواندا أو البوسنة. إنها ليست حربا، ولكنها عملية ممنهجة لذبح السكان المدنيين، ومذبحة عشوائية لا تميز بين الرجال والنساء والأطفال». ومن الجدير بالذكر أن بول كونروي قد أخبر ابنتي وهو يرقد على سرير بالمستشفى قبل أقل من ثلاثة أسابيع أنه لا يزال لديه «هديتين» روسيتي الصنع في أردافه؛ ويقصد بذلك قطعتين من الشظايا التي لم يتم استخراجها من مؤخرته حتى الآن! ولكنه كان مهذبا للغاية مع ابنتي. ويمكنني القول بأنه قد تم تدمير أكثر من نصف البنية التحتية التي تخدم نحو 14 مليون شخص في السبع مدن الرئيسة التي تشهد الثورة السورية، وقد تم تدميرها إما عن طريق القصف العشوائي أو عمدا من قبل قوات النظام السوري. ولا يتم السماح لأي شخص مصاب بالوصول إلى المستشفى. وفي الأيام الأولى للثورة، كان أي مصاب يصل لأي مستشفى يتم قتله أو يتم إلقاء القبض عليه ثم قتله بعد ذلك. وكان المستشفى الوحيد الآمن هو ذلك المستشفى الذي كان يتم تأمينه من قبل الجيش السوري الحر أو الذي يتم تطويقه بدروع بشرية. وقد حدث هذا في مستشفى «الوعر» في مدينة حمص خلال الأيام الأولى للثورة. والآن، تم تدمير معظم المستشفيات الخاصة في مدينة حمص، في حين أصبحت المستشفيات الحكومية فخا للموت، ولذا لم يكن بإمكان المصابين الذهاب لأي مستشفى خلال التسعة أشهر الماضية. وقد سمعت مرارا وتكرارا، وبصورة مباشرة، من الأطباء الموجودين في المستشفى الميداني بحي بابا عمرو على مدار الأحد عشر شهرا الماضية، والذين أكدوا التقارير التي أعلنها الطبيب الفرنسي جاك بيريز، وهو أحد مؤسسي منظمة «أطباء بلا حدود» والذي شاهد المدنيين وهم يموتون في حجرة عمليات مضاءة بالشموع متأثرين بجراح كان يمكن علاجها بسهولة في الأيام العادية. وكان معظم المصابين الذين دخلوا المستشفى هم من المدنيين الذين أصيبوا بشظايا من قذائف الهاون الثقيلة. وقال بيريز إن ما يحدث في حمص يذكره بمأساة العاصمة الشيشانية غروزني عندما كانت تتعرض للقصف من جانب القوات الروسية في خصم الحرب الشيشانية الثانية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. إننا، كمجموعة صغيرة على الأرض، نقدر عدد الذين فروا من منازلهم بنحو أربعة ملايين شخص، معظمهم من مدينتي حلب ودمشق، والمناطق المحاصرة في حمص وضواحي دمشق وغيرها من المدن. وعلاوة على ذلك، تم تدمير منازل نحو مليون شخص في المناطق الأكثر تضررا. ونتيجة لهذا الدمار الكبير، أصبحت النكتة الأكثر انتشارا في دمشق الآن هي أن سكان المدينة يمكنهم رؤية تركيا أو أنقرة من دمشق دون أي عوائق في الأفق بعد تدمير كل المباني والمنشآت! وقد أخبرني أحد الأطباء الشباب والذي يعمل في المستشفى الميداني في بابا عمرو أن منزله والمستشفى الميداني قد تم تدميرهما للمرة الثانية، ثم تم ذبح والده. وبدافع من اليأس، قال هذا الطبيب، شأنه في ذلك شأن العديد من الأطباء في بابا عمرو: «أين الله من كل ما يحدث؟». وفي قريتنا الصغيرة، تم ذبح ست عائلات كاملة بها أكثر من 70 شخصا، بمن في ذلك الأطفال والنساء، أما الشيء الأفظع في ذلك هو أنه لم يخرج أي شخص من أفراد تلك العائلات في أي احتجاجات. وعلاوة على ذلك، فإن أي شخص يقوم بنقل أي أدوات طبية أو حتى أكياس الدم الفارغة لإنقاذ أي شخص، يتم قتله أو اعتقاله ثم تحويله إلى محاكمة عسكرية تحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص. وفي الحقيقة، تفخر وسائل الإعلام التابعة للنظام بنفسها يوميا وهي تعلن عن اعتقال الأشخاص وتدمير المستشفيات الميدانية. ولا يتم السماح بدخول أي إمدادات طبية إلى سوريا أو إلى لبنان بصورة رسمية. وعلى الرغم من جهودها الحثيثة على مدار الشهرين الماضيين، فشلت منظمة «هاند إن هاند» اللبنانية في تخليص حاويتين تحملان المستلزمات الطبية لمدينة حمص، من مطار بيروت. والأسوأ من ذلك أن المستلزمات والإمدادات الطبية التي تمنحها وكالات الإغاثة الدولية للصليب الأحمر في سوريا تقع في نهاية المطاف في يد النظام السوري الذي يمنع وصولها للمدنيين. ولو تم سؤالي، بحكم مهنتي كطبيب، عما إذا كان النظام السوري يعمل عن قصد لمنع وصول المساعدات الطبية للمدنيين، فستكون إجابتي دون أدنى شك هي «نعم»، لأن هذه هي الحقيقة الموجودة في سوريا الآن. وأود أن أختتم حديثي بالإشارة إلى محادثة دارت بيني وبين أحد زملائي في دمشق منذ ثلاثة أيام على «سكايب»، حيث أخبرني هذا الزميل أنه قد تم إيواء 400 عائلة من حي بابا عمرو ومدينة حمص قبل يوم واحد في فنادق رخيصة وقامت بعض المؤسسات الخيرية بدفع المقابل المادي. وضمت هذه العائلات 50 طفلا صغيرا، علاوة على 160 طفلا غالبيتهم بلا آباء أو أمهات. وكان من بين هؤلاء الأطفال طفلتان حاملتان نتيجة تعرضهما للاغتصاب، إحداهما في الرابعة عشرة من عمرها والأخرى في العاشرة من عمرها. وقد حاول زميلي الحصول على وثائق تؤكد أن الفتاتين حاملتان، ولكن لم تسمح الشرطة السرية لأي طبيب بالحصول على مثل هذه الوثائق خشية استخدامها في تقديم تقرير رسمي تكون نتيجته مروعة. وفي اليوم التالي، أمرت الشرطة السرية السورية ملاك الفنادق بطرد ال400 أسرة والأطفال، وقاموا بتوزيع أوامر من النظام تشير إلى أنه من غير القانوني بيع أي ممتلكات لأشخاص من حمص أو دعوة أي ضيوف من حمص للبقاء في تلك الفنادق. وقد طلبت مني تلك العائلات، ولا سيما اليتامى، أن أوجه إليكم تلك الأسئلة: مع كامل احترامي لكل الجهود التي تبذلونها، ما فائدة مساعداتكم أو أموالكم إذا كانوا لا يستطيعون إيجاد أي مكان يؤويهم، هل ستؤدي تلك المساعدات إلى إعادة آبائهم، وما الذي ستفعلونه للفتاتين اللتين حملتا سفاحا وهما في سن الرابعة عشرة والعاشرة، وهل تمنع هذه المساعدات حدوث ذلك مرة أخرى؟ لقد طلب مني الناس التعساء والمحبطين في سوريا أن أطلب منكم مساندة المجلس الوطني السوري، لأن ذلك سوف يعطيهم بصيصا من الأمل. إما أن تقوموا بحمايتنا أو تقوموا بتسليح الجيش السوري الحر ليقوم هو بذلك، ولا يوجد خيار آخر. ومن الواضح للغاية أن النظام يريد لنا الموت بصمت، وأؤكد لكم أننا لن نموت بصمت إذا ما تلقينا مساعدتكم. فليرحم الله كل شهداء سوريا، وبارك الله فيكم جميعا. وسوف ننتصر. موسى الكردي أستاذ أمراض النساء رئيس المعهد العربي للامتياز السريري .