يمرُّ الإنسان في الحياة بآلام شتىَّ وأحزانٍ جمَّة تتباين بين الزيادة والنقصان من شخصٍ لشخص , والنَّاظر إلى حالِهِ و أحوال الناس يدرك أن الحياة لغزٌ يصعبُ حلُّهُ ولا تفوت الحكيم منا العظة , والعارف لا تخونه الفطنة بأن الدنيا دارُ الفتنة , وأن الكبد من سنن التكوين , والقدر شريعة البشر , يُغالبه الصبر , ويرفعه الثبات , ويعزه اليقين بالله , والبشرى حسن الجزاء بالطيبات والفوز بالجنة , وكلٌّ له حظٌ ونصيب من الفرح والترح يستوفيه كتاباً مكتوباً على كل نفس إلى أن ترتحل عن هذه الدنيا التي هانت على خالقها , وقبحت في عين ناظرها , ومانت لدى طالبها . وليس في حديثي عن الحياة وعِبَرِها وصورها جديدٌ على الناس فيما ألفوه وعاشوه , فلم تتبدّل النقمة والشكوى والألم من الحياة حتى صحَّ لهم أن يردِّدوا ما قاله الشاعر منذ مئات السنين : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأمِ ولو قُلنا ( ثلاثين حولاً ) في هذا العصر الكريه اللئيم الأليم لصدق أيضاً , أكتب هذا وأنا أنظر إلى شقيق أُمي خالي الشيخ الأديب إبراهيم زقزوق الرجل الذي يُعلمنا كيف يكون الصَّبرُ على المصاب ؟ وكيف يتحمل المؤمن الألم والأسى فيقابله بالحمد والتسليم لقضاء الله وقدره ؟! يقاومُ الابتلاءَ بالرضى والابتسام للحياة مُردِّداً (الحمد لله) , و(فرج الله قريب) برغم سنيِّ عمره التي قضاها وهو ما بين أمراضه المتنوعة , فقد رأيته صلباً قوياً غير مُستسلمٍ للوهن والضَّعف , بل كان مؤمناً مُتوكِّلاً على الله , يطرد اليأس والإحباط , ويقف كجبل شامخ أمام أعاصير الحياة وفي مواجهة الأحداث ليعلن القبول لله على ما أصابه , والرفض لكلِّ ما يثني عزيمته , أو يخدش دينه , أو يَمسّ كرامته وأحاسيسه . لقد تعلَّمت منه أن في الصَّبر عافية الأبدان , والرِّضى بأقدار الله قمّة الإيمان , وبالسَّماح يرتفع الإنسان , ومن العزم والحزم يولد الأمان , ومع النِّسيان يطيب السلوان . ولكم ألمَّ به من الأحداث والآلام ما يشيب له شعر الولدان ولكنَّه ما استكان قط ولم يعلن عجزه ولم يُبد استسلامه للحياة , كان يتمرَّد على آلامه بالأمل , ويتغلَّب على همومه بالعمل , ويأنس بالطاعة لله وانشغاله بالذكر والتسبيح , فكأنَّه برغم كل ما أصابه رافلٌ بالسعادة مبتهجٌ بالابتلاء , ولعلَّه ينظر أسارير الغيب في رضاه بالمقدور , أو لعل الله يُدخل البشرى إلى قلبه ونفسه فلا يعبأ بصروف الزمان وقوارع الأعداء والخلان. كان مع الله فكان الله معه في أشدِّ الكُرب مُعيناً وحفيظاً يحُفُّهُ باللطف ويهبه القوة بالصبر حين أصابه فشلٌ كلوي منذ عشرين عاماً وما تتابع بعدها من أمراض السكر والضغط والقلب وأخيراً مرض المرارة , وهو صابرٌ محتسب لم يكن متبرماً بل تراهُ هاشَّاً باشَّاً , خدوماً لأهله وأصحابه وأحبابه , يعودُ أهله ومحبِّيه في أي واجب إسلامي , باراً بهم مُتجاوزاً عن السيئات باذلاً للحسنات ما استطاع إلى ذلك سبيلا ونقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله عليه لما حباه الله به من هذه الأخلاق وهذا الرضى وهذه العزيمة التي يتعلم منها أولو النُّهى في الصبر على الشدائد والمكاره ومقابلتها بالحمد والشكر للحنَّان المنَّان الذي يجود على عبده بالصبر والرضى والحمد , فطوبى وحسن مآب أيها الخال الصديق إبراهيم , وهنيئا لك ما احتملت من جروح وهموم من القريب قبل البعيد وأنت لا زلت معطاءً وفياً صادقاً نقيا , بوركت ووقيت من شرور الدنيا وسيئات الآخرة وجزاك الله خيراً كثيراً , فكلَّما أقرؤك على صفحات كتاب الحياة أجدك عَلَماً ومعلِّماً لليائسين والمحبطين والمرضى والعاجزين تُقوِّي من عزائمهم نحو الحياة بالأمل الذي تزرعه في نفوس ناظِرِيكَ وعارِفِيكَ , وكلَّما قرأتك في جريدة البلاد من خلال كتاباتك الأسبوعية أرى أن الحياة هي نضال الصامدين الثابتين المؤمنين الآملين في الله وفي جنة عرضها السموات والأرض أعُدت للمتقين , هذه هي خلائق الحياة وهذا هو ديدن المسلم الذي يدرك أن الدنيا طبعها الغدر , وشيمتها العناء , ونهايتها الفناء , ولكنَّ الإنسان مجبولٌ على مسايرتها ومصاحبتها , وليس لأحد مهما أُوتِيَ من القوَّة والجاه والمال والعزة والسلطان أن يقف في وجهِ أقدارِها وقدرتها , فهي إعصارٌ هادم , وطوفانٌ جارف , وأعمارٌ تتلوها أعمار , والمضحك والمبكي فيها سيَّان , فحين يُفكر الإنسان في دنياه منذ ولادته مروراً بشبابه وفتوّتِهِ إلى هرمه وشيخوخته يألم كثيراً على ما أسرف حين كان يظن بأنَّه القادر , وأنَّه المالك , وأنّه النّابهُ وأنّهُ ..... وأنه , ثم لا يلبثُ أن يكتشف في لحظة ما بأنّهُ أضعف من نملة وأوهى من نسمة ولكنَّ رحمة الله أجمل وأكرم وأعظم . أيُّها الصابر المحتسب هناك ما لا نستطيع أن نفعله لبعضنا البعض لعجزِنا وقلَّةِ حيلتِنا ولله في خلقه شؤون فعليك به فهو وحده المشيءُ لما كان وما هو كائن وما سيكون . من شعري : ما كلُّ قلبٍ خَليِّ الهم يا صاحِ أو كلُّ طيرٍ إذا غَنَّى بصدَّاحِ تناثرتْ كلُّ آمالي معطرةً واستنكر الصَّمتُ عنِّي ظُلمَ أتراحي وكلُّ آهٍ على أهٍ أُحَمِّلُها وصيِّبُ القطر نحوي غيرُ لمَّاح أين الزهورُ , ربيعُ العمر مؤتلقٌ وأين قمحي الذي يزهو وتُفَّاحي رجعتُ أُسكِنُ أفراحي مواجعَها فكيف أخرجتُها في غفلةِ اللاحي ليلٌ بهيمٌ وعمرٌ ضاعَ أجملُهُ خُلِقْتُ أحرسُهُ من جورِ أرواح أظلُّ أعذِلهُ لكن يُماطِلني فلا يردُّ لِعذلِي أو لإفصاحي وقلتُ أصبِرُ فالأيامُ واعدةٌ يا وعد سود الليالي أين مِصباحي وعشتُ محتذراً للدهرِ أرفعُهُ عن ذلَّةٍ من وضيعِ القدرِ سفَّاحِ أُذْكي الأحاسيس نبضاً من سناً تَرِفٍ أُحْيي الأماني فمن مَيْتٍ إلى صاحِ ما كان يَشْغَفُنِي مالٌ يؤثِّمُنِي يا دنيتي أنتِ لا تدرينَ أطماحي إن قلتُهُ زادَ في نفسي توجُّدُها لأن ما بيننا إعصارُ أرياحِ أشباهُ ناسٍ على العلاَّتِ تقبلُهم وإن عدلتَ فقل أنصافُ أشباحِ لو يُسعِف العمرُ أمثالي إلى شرفٍ لاستعذبَ الدهرُ قَبْلَ الحُزْنِ أفراحي أبِيتُ قلباً أحبَّ الناسَ كلَّهُم وإن غضبتُ فحُبِّي كان فضَّاحي بذلتُ ماليَ لا فسقاً ولا سفهاً بل في تُقى اللهِ للمُمْسي وللضَّاحي علوتُ بالذكرِ من علمٍ ومن كرمٍ وكم سمعتُ من الأعداءِ مدَّاحي مناهلُ الحبِّ عندي تاهَ آخِرُها لكلِّ صادٍ إلى أنهارِ أقحاحِ أنا الغنِيُّ بحبِّ الناسِ , أنْفَسِهِمْ أصحابُ علمٍ وفضلٍ , تلك أرباحي قد أنكرتْني خُطَى حظي وآلمني أسقي المزون وأحسو وهم أقداحي يا حاجبَ الشَّمسِ ظناً منك تَحجُبُها عمري هو الشَّمسُ فاحجبْ كلَّ أصباحي