إن الهدف من تفعيل أعمال القلوب في مكة أن يستشعر المتربي عظمة رب هذا البيت ، ومكانة هذا الحرم وما فيه من الشعائر فينال الخير من ربه كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (الحج:30) . وإذا باشر المتربي هذه الأعمال القلبية أثناء مقامه في مكة ستصبح له بمثابة الدورة التدريبية المكثفة ، وإذا أقر بأهمية الأعمال القلبية وأثرها ، وتعود عليها ، أصبحت سلوكاً طبيعياً وسجيةً غير متكلفة، واستفاد من آثارها الإيمانية . فتعظيم حرمات الله أمر قلبي يدفع الجوارح والأعضاء إلى تحقيق مدلوله في الواقع الإيماني للمتربين، يقول ابن سعدي رحمه الله: (لأن تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة لله المقربة إليه ، التي من عظّمها وأجلّها أثابه ثواباً جزيلاً وكانت خيراً له في دينه ودنياه وأخراه عند ربه. وحرمات الله كل ما له حرمة ، وأمر باحترامه من عبادة وغيره ، كالمناسك كلها ، وكالحرم والإحرام ، وكالهدايا ، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها ، فتعظيمها يكون إجلالاً بالقلب ، ومحبتها تكميل العبودية فيها غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل) . فمنذ القدوم إلى الحرم ينبغي الاجتهاد في القيام بأمر الله ، وبما حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء المناسك والعبادات ، وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أحاديث عن معالم مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة ،قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32) . يقول ابن سعدي: (وأن تكون مكملة من كل وجه فتعظيم شعائر الله ، صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه ، وصحة إيمانه لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله) . وتطبيق أعمال القلوب في مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة له مجالات كثيرة ، ومنها ما يلي : أ – الإخلاص : إذ إنه من آكد وأهم أعمال القلوب ، ومدار الأعمال كلها عليه ، ولا قيمة للعبادات ولا للأقوال ولا للأفعال ما لم تكن مبنيةً على الإخلاص . والإخلاص هو أن يقوم الإنسان بالعمل مبتغياً به وجه الله سبحانه وتعالى ، وما عنده من الأجر . ومن ثمار الإخلاص : قبول الأعمال ، وزيادتها ، والبركة فيها ، وكثرة التعلق بالخالق سبحانه وتعالى. وهذا العمل القلبي ينبغي أن يستصحبه المتربون أثناء إقامتهم في بلد الله الحرام ، وأثناء أدائهم للعبادات والمناسك ، بل وقبل أن يقدموا إلى هذا البلد المبارك . قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163) . فحين يهم المتربي مغادرة بلده إلى الأراضي المقدسة للعمرة أو الحج أو الزيارة ، ينبغي عليه أن يُذكّر بالإخلاص لكي يكون سفره خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى لا يطلب به مدحاً ولا ثناءً ، ولامنصباً أو جاهاً ،ويصفي أعماله كلها وينقيها من انتظار ملاحظة الآخرين وإعجاب الرفقاء في الرحلة ، أو الأهل والأصحاب في بلده، ولا يكون سفره إلى مكة من أجل التسلية والاستئناس بالرفقة والأصدقاء، وإنما من أجل العبادة والتقرب للمولى سبحانه وتعالى. وعلى المربين أن يعقدوا دروساً علميةً عن الإخلاص وأثره وفضله ، واستعراض الآيات والأحاديث التي تأمر به . كما أن للقصة آثارها التربوية في غرس المفاهيم والقيم ، فيمكن للمربي أن يستحضر العديد من قصص السلف في تمسكهم بالإخلاص والثمار التي جنوها من الإخلاص . وحين يهم المتربون بأداء العبادات المكية كالصلاة في الحرم أو الطواف حول الكعبة أو تقبيل الحجر الأسود ، أو إقامة مناسك الحج والعمرة ، يُبين لهم المربي استحضار النية الخالصة لوجه الله سبحانه وتعالى. ومما يؤكد على الإخلاص في مكة ما حث عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من إخلاص الحج لله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). ففي هذا الحديث بين صلى الله عليه وسلم أن غفران الذنوب مرتبط بأن يكون الحج خالصاً لوجه الله ، وأن يكون خالياً من الرفث والفسوق . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه الإخلاص في الحج ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة).