أكد الدكتور سعيد أحمد عنايت الله المدرس بالمدرسة الصولتية بمكةالمكرمة، أنه لايسوغ لصاحب رأي أو مفكر أن يقرر رأياً مهما كان الأمر صواباً إذا ترتب على ذلك مفسدة أو اثارة فتنة.جاء ذلك في المقال الرابع بعنوان: (حق حرية التعبير وحق حرية التحقيق) وأضاف عنايت الله إن حرية الرأي والتعبير تعني تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بما يراه فإن كان على حق فيلزمه أن يفصح عنه، وان يسدي النصيحة في جميع أمور الدين والدنيا، على وجه يحقق : نفع المسلمين، صيانة مصالح الفرد والمجتمع، حفظ النظام العام، وذلك كله في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلا أنه حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها ، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس، ويرضى الخالق جل وعلا. وهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها، وإلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله ، أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء، ويخل بالنظام العام وحسن الآداب، ولهذا الحق المكفول طرق ووساذل تؤصل إليه: منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم، ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها. والباحث الشرعي حينما يبحث في أي فكرة، فهمه تتريل الأحكام على الوقائع، ورائده التوصل إلى الحق والبحث عن الدليل، وإعمال الضوابط الشرعية، فالحكمة ضالة المؤمن وإن كل حادثة تحتاج إلى معرفة أصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها ، وتتمثل هذه القواعد في أربعة أصول هي: الأولى : مجالات إبداء الرأي وهي: كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة ، سواء كان متعلقاً بالعبادات ، أو المعاملات، أو العقوبات ، أو العلاقات الشخصية. فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل ويتفقه فيه، قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب: 36. وهذا أظهر من أن يستدل له ، إذ العبودية الحقة لله تقتضي الامتثال لأمره، ومعنى الرضا بالله رباً، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبينا ، هو : التحاكم إلى منهاج الله تعالى، ورد الأمر إليه، ولذا نفى الله تعالى الإيمان عمن لم يستكمل هذا فقال جل وعلاً: (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء: 65. وهذا أصل عظيم من أصول الإيمان، وهو معنى الإسلام، فإن حقيقة الاسلام هي الاستسلام لله والانقياد له ،ومن لم يرد إليه الأمر، لم ينقد له. ودين الاسلام مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهي الأصول المعصومة التي لا يجوز تجاوزها أو الخروج عنها، وعلى أساسها توزن جميع الآراء والأقوال والأعمال، قال تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الحجرات: 1. وفي حديث معاذ رضى الله عنه - حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فإن لم تجد ؟ قال: أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله. فنلاحظ أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الحجرات: 1، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وعلى هذا الهدى في الرد إلى الكتاب والسنة، وعدم مخالفتهما مهما ظهر بالرأي والفكر سار سلف هذه الأمة، ولن ينصلح آخرها إلا بهذا السبيل. قال أبو الزناد- رحمه الله - : (إن السنن لاتخاصم ، ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي والتفكير ، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه ينبغي للسنن أن تلزم ، ويتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه. ولذا كان مجال الرأي في الإسلام مجالاً محكوماً بالكتاب والسنة والاجماع ، فما قرر فيها، فهو أصل معصوم لا يخرج عنه. وإذا أعمل الإنسان رأيه وقرر نتائج بناها على مقتضى المصالح أو الأهواء أو غيرها وهي معارضة لكتاب الله وسنة رسوله فقد راغم الشرع، ولم يقابله بالرضى والتسليم. وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع، فإن للمسلم أن يتخذ فيه رأيا يبديه، بما لا يتعارض مع الضوابط العامة لإبداء الرأي. الثانية: صاحب الرأي: لقد ذم الله تعالى من يقول بلا علم ، فقال: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) النحل: 116 فعلى صاحب الرأي ألايبدي رأيا دون علم. قال الشاطبي رحمه الله : الاجتهاد في الشريعة ضربان: أحدهما : المعتبر شرعاً. والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض ، وخيط في عماية ، واتباع للهوى ، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره ، لأنه ضد الحق الذي أنزل الله، كما قال تعالى: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة: 49 ، وقال تعالى: ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) الأنعام: 116. فلابد أن يكون المجتهد وصاحب الرأي والتعبير من أهل الخبرة والاختصاص فيما لتكلم عنه، لأن كلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد ولا يعول عليه. ولذا أمر الله تعالى بسؤال أهل الذكر دون غيرهم: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل : 43، وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به. ومن هنا كان أهل العلم لا يعتبرون بكل خلاف حتى قيل: وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر. وإذا أريد قياس الرأي ومعرفة مكانته ، استند الناظر إلى ما استمد منه هذا الرأي، هل هو العلم والتثبيت ، أو المصالح الشخصية والعصبيات الجاهلية ومحض الهوى؟. وكما يشترط لإبداء الرأي القدرة على ذلك، والتأهل له ، واستناده على ما يعضده، فإنه يشترط فيه أيضاً: إرادة الحق والخير، وهذا من معنى الإخلاص ، وحسن الإرادة التي هي مناط خيرية العمل، وصلاحه وقبوله. الثالثة : مراعاة مآل الرأي: إن إبداء الرأي الذي يستند لأصل، ولا يخالف الشريعة، وإن كان في أصله مباحاً، غير أنه في بعض الأحوال قد ينجر عنه في مآله من الأضرار والمفاسد ما ينافي مقصد الشرع في المصلحة والعدل، فتكون الآراء المباحة أو المشروعة مؤدية إلى خلاف مقاصدها. ويحدث ذلك بسبب عدم التبصر بمآلات التصرفات والآراء والأقوال، أو سبب الباعث السيء عند متعاطيها. وسواء كان الباعث فاسداً أو صالحاً ، فإن مجرد مفسدة المآل، والنتيجة السلبية للرأي، يجعل الرأي رأياً مذموماً، واجب الكتمان. فهذا هو المعيار الذي توزن به الآراء والاجتهادات ، وهو مدى كون آثارها محققة لمقاصد الشرع أو مناقضة له. وعليه: فإنه لا يسوغ لمجدد ، أو صاحب رأي ، أو مفت ، أو مفكر ، أن يقرر رأيا مهما كان صواباً إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، أو كان مثيراً لفتنة. الرابعة: لا يسوغ الإلزام بما هو من موارد الخلاف. إن المسائل في شريعة الاسلام منها ما هو قطعي محكم ، فهذا ثابت الحكم لا يتغير بتغير الزمان والمكان. ومنها مسائل الاجتهاد وموارد الخلاف التي لم يحسمها نص قاطع، ولم يثبتها دليل ظاهر، فليس فيها نص شرعي ، ولا اجماع قطعي، فهذه يحكمها اجتهاد المجتهدين المؤهلين، فيختار المجتهد منها أظهرها عنده. ولقد صدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعها بالقاهرة في 14/1/1411ه ، البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإسلام، وتضمنت المادة الثانية والعشرون منه: (لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادىء الشرعية، ولكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية). وحرية الكلام والتعبير حق فطري ، لأن التعبير عما في الضمير فطرة فطر عليها الإنسان يعسر ، بل يتعذر إمساكه عنها، فكان الأصل أن لكل إنسان أن يقول ويحاور ويناقش ولا يمسكه عن ذلك إلا وازع الدين بأن لا يقول لغواً ، أو ينطق باطلاً.