نشرت صحيفة «الحياة» يوم 1 - 1 - 2010 إضاءة حول بحث الأستاذ محمد البشر بعنوان «حرية الرأي في الإسلام والنظم الحديثة». كما ذُيلت الإضاءة بعنوان آخر «البشر ينصح بسجن الكلمة وقطع الألسنة عند اللزوم». والحقيقة أنني أحترم رأيه ما دام العنوان جاء بصيغة «قيود على حرية الرأي في ثقافته الإسلامية». فحرف الهاء في كلمة «ثقافته» هو ضمير يعود إلى الباحث. ميّز الخالق سبحانه الإنسان عن بقية المخلوقات، بأن وهب الله له عقلاً يمتلك به قدرة التفكير وصنع الرأي، ومنحه إرادة يتمكن بها من اتخاذ القرار الصائب وحرية الاختيار الأمثل. وبذلك أصبح أهلاً للتكليف والخطاب الإلهي. وقد اصطبغت الحرية بالجدل الذي قام منذ القرن الأول الهجري، وفي عهد التابعين إذ ظهرت فكرة الجبر والاختيار، وهل الإنسان حرّ في تصرّفاته خالق لأفعاله، أم هو مسيّر لا مخيّر مجبور على فعل ما يفعله، مسلوب الإرادة من كل اختيار؟ الحرية غريزة فطرية سار عليها الناس منذ أقدم العصور، خصوصاً في بواكير الإسلام، والشاهد على ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». ثم بتطوّر المجتمعات وتقدّمها في الحضارة والرّقي الفكري تغيّرت نظرة الإنسان للحرّية، وصار معناها حسن التصرّف والاتزان، تقيدها العقول السليمة والشرائع السماوية خصوصاً الإسلام في نطاق المسؤولية الكاملة والكرامة الواعية، فهي مسؤولية، وهي وظيفة اجتماعية مقيدة بما لا يتعارض وحرية الغير، فهي حرية نسبية سواء أكان ذلك اختياراًَ أم اضطراراً. يقول ابن خلدون: لما تقدّمت الأمم واحتاج النّاس إلى التكامل والتعاون - وهم محتاجون لذلك، لأن الإنسان اجتماعي ومدني بطبعه - إلا وكانت الحرّية مطمحاًً منشوداًً وقيمة إنسانية وركيزة اجتماعية يتعلق بها الإنسان، لكي تستقيم أموره. وكلما أوغل في الحضارة إلا وازداد تعلّقه بها، ووضع لها الضوابط والقوانين المنظمة لها التي تحرس كيانه، وتوفّر له طرق الاستفادة منها، واستثمار مواهبه في رحابها. وكلّما أوغلت البشرية في البداوة، وابتعدت عن الحياة المدنية، وكانت خالية من المعارف والعلوم إلا وكانت بعيدة عن الحرية، وما تتطلّبه من مسؤوليات. فكلّما أوغلت الأمة في البداوة كانت أبعد ما تكون عن الحرّية ومكاسبها. وكلما تقدّمت في الحضارة إلا وازدادت ولوجاً في عالم الحرّية. القاعدة الأصولية الأولى في الإسلام تقرر أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يحرم بنص من القرآن أو السنة. ولا يوجد في الكتاب أو السنة ما يمنع المسلم وغير المسلم من ممارسة حقه في حرية الرأي وحرية التعبير وحرية المعرفة، بل العكس هو الصحيح. فالإسلام قد حوّل هذا الحق إلى واجب يثاب المرء على فعله ويؤثم لتركه. وإذا كان معنى الحرّية يُطلق على ألا يفعل الإنسان إلا ما يريده وبكامل اختياره ومن غير إكراه ولا تسلّط، كان معناه أننا رفعنا عنه كل قيد من شأنه أن يجعله ذليلاً منقاداً لمشيئة غيره، وأن يتصرّف تصرفاً لا يريده وفيه قهر وإلزام طبقاً لمشيئة غيره. يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»: «كان هذا الإطار يقارب ما يُعبر عنه في العربية بلفظ الانطلاق أو الانخلاع من ربقة التقيّد، ولا نعرف في العربية مفردة تدلّ على هذا المعنى. وقوله تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، فعدم الإكراه هو الحرّية بالمعنى الصحيح». إن إبداء الرأي الذي يستند إلى أصل ولا يخالف الشريعة، وإن كان في أصله مباحاً، قد ثبت الإذن بإبدائه بحسب الأصل، غير أنه في بعض الأحوال قد يُسفر عنه في مآله من الأضرار والمفاسد ما ينافي مقصد الشرع في المصلحة والعدل، فتكون الآراء المباحة أو المشروعة مؤدية إلى خلاف مقاصدها. ويحدث ذلك بسبب عدم التبصّر بمآلات التصرّفات والآراء والأقوال، أو سبب الباعث السيئ عند متعاطيها. وسواء كان الباعث فاسداً أو صالحاً فإن مجرد مفسدة المآل، والنتيجة السلبيّة للرأي؛ يجعل الرأي رأياً مذموماً واجب الكتمان. فامتناع النبي عن قتل المنافقين، دفعاً لمفسدة تحدُّث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه، يعدّ من أمثلة هذه القاعدة. وعليه فإنه لا يسوغ لصاحب رأي ولا لمفتٍ أو مفكر أن يقرر رأياً مهما كان صواباً، إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، أو كان مثيراً لفتنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «على المفتي أن يمتنع عن الفتوى في ما يضر بالمسلمين ويثير الفتن بينهم، وله أن يمتنع عن الفتوى إن كان قصد المستفتي، كائناً من كان، نصرة هواه بالفتوى وليس قصده معرفة الحق واتباعه». فعن عبدالرحمن بن عوف أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب فقال: إن فلاناً يقول: لو قد مات عمر بايعتُ فلاناً. فقال عمر: إني قائمٌ العشيّة في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. قال عبدالرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس؛ فأخشى أن تقول مقالةً يطير بها أولئك فلا يعوها، ولا يضعوها على مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسُّنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً، فيعون مقالتك ويضعونها مواضعها. فقال عمر: لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه. فلما قدم المدينة قام على المنبر فكان مما قال: فإني قائل مقالةً من وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومَنْ لم يعها فلا أحل له أن يكذب عليَّ. سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن قلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: هل ينكر عليه أم يهجر؟ فأجاب: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر. ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه. فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قَلّد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين. ومن هنا فإن كل رأي لم يستند بقاطع في الشريعة، فإنه لا يسوغ لقائله أن يستبد به ويحتكر الصواب؛ بل ما دام قولاً لغير معصوم فالخطأ عليه وارد، والخلاف سائغ، والإنكار ممنوع. لقد أقر القرآن الكريم بتعددية الآراء وتنوعها، وهي سنته تعالى في خلقه ليكونوا مختلفين، إذ يقول تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما ءاتكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). أي أن الاختلاف بين البشر ليس أمراً طبيعياً فحسب، بل إيجابي. ويوضح القرآن الكريم أن اختلاف الآراء يؤدي إلى النزاع والصراع، إذ يقول تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُول). فالشيء المؤكد هو وجود آراء متعددة في المجتمع الإسلامي تعكس تنوعه وتياراته الفكرية. كما أن السنّة النبوية الشريفة أيضاً حضت على حرية الرأي، ففي الحديث الشريف قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قل الحق ولو كان مراً». إن من أمثلة حرية الرأي في الإسلام اعتماد مبدأ التشاور وعدم الفردية في اتخاذ القرار استناداً لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). والشورى تعني أن هناك أكثر من رأي. يقول ابن خويز منداذ: «واجب على الولاة مشاورة العلماء في ما لا يعلمون، وفي ما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش في ما يتعلّق بالحرب، ووجوه الناس في ما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال في ما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها». ... نكمل في الأسبوع المقبل. * باحث في الشؤون الإسلامية.