كما ان التزاحم في المجالس والطرقات وفي قضاء المصالح أمر مكروه بغيض ينبغي أن يتنزه عنه المسلم الواعي بمعاني الإسلام وتنظيمه لحركة الانسان في الدنيا.. فان هناك نوعاً من التزاحم أشد كراهية وأجدر بالاجتناب.. وهو التزاحم الفكري الذي لا يكون هدفه استخلاص الحقيقة أو البحث عن الصواب.. بل يكون هدفه اظهار التفوق والرغبة في الانتصار. ويتمثل هذا في الجدل العنيف والمناقشات الصاخبة التي يقاطع فيها كل من المتحدثين صاحبه ولا يصبر على سماع حجته.. بل يحاول الغلبة ليعلو الصوت والبعد عن الموضوع والدخول في متاهات أخرى يتشعب معها الحديث وينقطع حبل الأفكار!. وقد وضع أسلافنا علما سموه (أدب البحث والمناظرة) ينظم عملية الحوار ويرشد كلاً من المتحاورين الى ما يجب عليه من الاصغاء والترتيب المنطقي والبعد عن التهويل والجحود والانكار للحقائق .. وكان هذا العلم يدرس من قبل في حلقات الدراسات الدينية وفي المعاهد العلمية.. وما أظنه موجود اليوم!. لهذا نجد هذا الضجيج العنيف وهذا الصخب الثائر كلما كان هناك مجال للنقاش والحوار.. ففي النوادي الادبية.. وفي الندوات العامة.. وفي بعض وسائل الاعلام (الفضائي) نجد هذه النزعة السائدة التي تكشف عما وراءها من حقد متأصل وكراهية عميقة بين من تجمعهم ساحة الحوار.. والغرض انهم ينتسبون الى العلم والفكر والبحث..وان كلامهم يستهدف جلاء الحقيقة واكتشاف الصواب. ومن قبل كان الامام الشافعي رحمه الله يقول ما ناظرت أحدا الا تمنيت أن يظهر الحق على لسانه!. وهو نفسه الذي كان يقول : ما ناظرني عالم إلا غلبته ولا جاهل الا غلبني!. وتلك هي المأساة الفادحة التي يشهدها عالم اليوم.. وهي ان الجهال تعلو أصواتهم ويتسع المجال أمامهم فينكرون الحقائق ويكذبون الصادقين.. ويثرثرون ويتشدقون ويتفيهقون.. أي يدعون الامتلاء من العلم والتعمق في البحث.. فيخدعون الناس ويلبسون الحق بالباطل.. ويا ضيعة العلم والعلماء في هذا الزحام!.