حياتنا أشبه ما تكون بقاعة في أحد المطارات العالمية ، تختلف الوجهات ، وأوقات المغادرة والوصول ، وتختلف شركات الطيران ، والخدمات الأرضية ، وتختلف درجات الركاب ، ولكل وجهة هو موليها . في المطار مسافرون وقادمون ، مودعون ومستقبلون ، وهناك من لأول مرة يجرب السفر جوا ، والخوف يملأ قلبه ، وهناك من لا يأبه لكثرة سفره وتعوده عليه ، وهناك من يخدم المسافر على الطائرة ، وهناك من يخدمه على الأرض ، وهناك من لا يعرف كثير من المسافرين أنه يضنيه التعب في خدمته لكنه لا يراه ولا يشعر بتعبه ، كموظف الصيانة ، والأوزان ، والتموين ، وغيرهم . هذا ملخص حياتنا الدنيا ، أفراح اللقاء ، وأحزان الوداع ، وأناس يعملون بصمت ، وأناس تحت الأضواء ، وعمل دؤوب للمغادرة والقدوم ، لكن بعض الفروقات ينبغي أن نتنبه إليها ، فالمسافر عادة قد يختار وقت وجهة سفره ، ويختار في أحيان كثيرة ناقله ، ويحدد أوقات مكثه في وجهته ، وهو على أمل عودة ، ويمكنه أن يلغي سفره ، وربما غير وجهته ، وربما تضايق من تأخر رحلته ، وهناك من لم ولن يسافر ، ولم يفكر في سفر . أما في الدنيا فالكل مسافر ، والكل في انتظار السفر ، حتى المودع لحبيب أو قريب يوقن أنه سيلحق به في رحلة أخرى ، لكنه لا يدري متى ، ولا من أي صالة ، ولا من سينقله ، ولو أراد التأخر ولو قليلا فلن يتاح له ذلك ، وليس مسموحا أن يحمل معه شيئا من متاع ، ولا يحتاج في سفره الآخر إلى هوية ، ولا جواز ، فغرفة التفتيش لا تقبل شيئا ولو ما يستره ، فلا بد له أن يتخلص من ثيابه ، ويلبس عند غرفة التفتيش غيرها . إذا أجلت النظر هنا وهناك ، وحاولت أن تجد الفروق ، ولا يشترط أن تكون سبعة ، فإنك ستجد المتشابهات أكثر وأكثر . ولست في مقالي هذا واعظا ، والموعظة خير ، ولكني أريد أن أنسل من هذه التعقيدات الحركية في المطار إلى أفق أعلى ، وأرقب المسافر وهو يجلس بقرب النافذة ، ويبدأ الاستمتاع بالنظر إلى الأرض وهي تبعد عنه رويدا ، رويدا ، كلما علت الطائرة ، حتى لا يكاد يميز شيئا عليها . من نافذة الطائرة تستطيع أن ترى الدنيا على حقيقتها ! صغيرة ، كلما ابتعدت عنها ، والبعد عنها لا يكون إلا بعلو ، والعلو لا يكون إلا بناقل ، والناقل الحق هو الإيمان ، الذي يعلو بنفس المؤمن فتريه الدنيا كأنما هو على متن طائرة ينظر إلى أرض المطار ومبناه يصغر ويصغر ، بل مدينته كلها ، التي يتطاحن الناس عليها ويتعاركون من أجل أمتار قليلة ، هي في العلو مجرد نقطة . ولعل هذا هو سر المعراج الأكبر ، فقد ارتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى رأى الأرض كلها مجرد نقطة ، كما نرى النجوم التي تكبر الأرض بملايين المرات ، مجرد نقطة ؛ لهذا لم ينظر عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا إلا كعابر سبيل ، وعابر السبيل أيها المحب هو المسافر ، المسافر الذي يعلم يقينا أن المطار مجرد محطة لانتظار إقلاع الطائرة ؛ ولهذا يحرص المسافر على أن يتخفف كلما علم أن سفره قصير ، فيحتال لكي لا يكون معه سوى حقيبة واحدة يجرها بيده ! فهو يعلم أنه عابر سبيل . ولهذا أيضا لا ترى مسافرا يتكثر من الحقائب إلا إذا كان في طريق عودته إلى دياره ، أو أن مكثه في سفره سيطول . ليت الظالمين ينظرون إلى الدنيا من نافذة طائرة ، ويرى حجم طائرته الكبير جدا وهو على الأرض كيف أصبح ريشة تذروها الرياح حين علت في الفضاء ، وأي خطأ قد يودي به ومن معه إلى غياهب جب لا تستطيع دول العالم مجتمعة أن تكشف عنه ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . من هنا تستطيع أن تعلو على الدنيا فتتخفف من أعبائها ، وتعلم أن الوقت يمضي إن لم تستدركه ، وأن المسألة كلها لا تستحق العناء ، ولا الخصام ، ولا التناحر ، ولا أن تحقد أو تحسد وأن المتاع على متن الطائرة مهما طالت مدة السفر متاع قليل ، والوصول مهما كان آمنا فهو غير مضمون . فكن عابر سبيل ، لأنك فعلا عابر سبيل ، والفرق الأوضح في الحالتين أن الرحلة هنا قد تفوت ، فتقلع الطائرة بدونك ، لكن سفرك الأخروي أنت في مقصورة وحدك ولن تقلع إلا بك .