لم يعد السفر الى اميركا مريحاً. الرحلة اصبحت هماً والهم يبدأ قبل صعود الطائرة. طوال الاشهر الماضية، وبعد 11 ايلول سبتمبر تحولت الولاياتالمتحدة بالنسبة الى حملة جوازات السفر العربية هاجساً ثقيلاً، اختلطت فيه الروايات بخيالات المسافرين وقدرة اجهزة الامن على ابتداع انواع تفتيش وتدقيق لا تخطر في بال. بداية، سارت الأمور كما يحدث عادة في مطار بيروت. تدقيق في جواز السفر، تأكد من صلاحية التأشيرة، ومن ثم تفتيش للأمتعة وللحقائب الشخصية... والى الطائرة. أربع ساعات في مطار "سكيبول" الدولي امضيتها بقراءة تحليلات رئيس القسم الرياضي في "الحياة" الزميل محمد نبيل نعيم الذي كان متوجهاً في رحلة يحسد عليها الى اليابان وكوريا لتغطية مباريات كأس العالم، لجاذبية كلامه ودقة معلوماته، وأخبار جمعها من الملاعب طوال ثلاثين عاماً في الصحافة الرياضية. وكدت افوت موعد اقلاع الطائرة المتوجهة الى مطار نيوآرك الدولي في نيوجرسي، البعيد نحو ربع ساعة عن نيويورك. توجهت الى بوابة الطائرة، وقبل وصولي شاهدت صفاً من المنتظرين يتجاوز مدخل البوابة السابقة، تجاوزته مستغرباً الامر، واذ به صف الانتظار لدخول البوابة للرحلة رقم 64 المتوجهة الى نيوآرك على متن خطوط شركة "نورث وست" الاميركية. انتظرت نحو 40 دقيقة، وصلت الى مدخل البوابة، واذ برجل أمن يتبع لشركة خاصة ويتكلم بلكنة اميركية خالصة، يوزع المسافرين، بعضهم الى الممر المؤدي الى الطائرة، والبعض الآخر الى ركن في القاعة لتفتيش جديد. عند اطلاعه على بطاقة الصعود، سألني عن عدد الحقائب، قلت واحدة في قسم الامتعة، والثانية صغيرة الحجم فيها جهاز كومبيوتر احملها على كتفي. طلب بكل تهذيب مستخدماً كلمة سيدي ان اتوجه الى ركن التفتيش. وهنا بدأ الاحساس بثقل السفر الى الولاياتالمتحدة. رجل أمن آخر، وبالتهذيب نفسه، بدأ يسأل الاسئلة العادية عن الامتعة، ومن وضبها؟ وهل تركتها او غابت عن عيني؟ وهل تسلمت اي غرض من شخص غريب؟ الاجابات كانت كلها بالنفي. طلب جواز السفر، وبدأ قراءة صفحاته صفحة صفحة. على الجواز تأشيرات دخول الى باكستان والجزائر ومصر والسعودية وايران ودول اخرى، لكن توقف ملياً عند التأشيرة الباكستانية. سألني عن مهنتي. قلت محرر في صحيفة "الحياة". ابتسم وقال انه يعرفها ويسمع انها الاكثر انتشاراً. شكرته على اهتمامه، معتبراً ان الامر انتهى عند هذا الحد. لكنه وبلطفه المعهود طلب تفتيش الحقيبة المحمولة، فتشها بدقة، ثم طلب تشغيل جهاز الكومبيوتر وأحد البرامج الموجودة على سطح المكتب، اطمأن الى سلامة الجهاز، ووضع الحقيبة جانباً. سألني عن سبب رحلتي الى الولاياتالمتحدة. شرحت له ان القصد منها زيارة قاعدة غوانتانامو البحرية في كوبا والاطلاع على معتقلي "اكس راي" و"دلتا" حيث يحتجز عناصر تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". لم يستطع رجل الامن اخفاء دهشته، وطالبني بأوراق تثبت ذلك. شرحت له ان القيادة الجنوبية في الجيش الاميركي المسؤولة عن غوانتانامو لم تزودني سوى برسالة الكترونية موجودة على الكومبيوتر، وقال المسؤول عن العلاقات العامة فيها ان كل ما علي احضاره جواز سفري وبطاقتي الصحافية، والتوجه الى قاعدة "ادواردز رود" في بورتوريكو حيث سيكون ضابط آخر من دائرة العلاقات العامة في انتظاري. استدعى رجل الامن زميلاً آخر له ليقف مكانه. وأخذ جواز السفر قائلاً انه بحاجة لمراجعة رؤسائه في المطار. غاب نحو عشر دقائق، وعاد ليأذن لي بصعود الطائرة. الرحلة بين امستردام ونيوآرك تستغرق سبع ساعات، قضيتها في مراجعة تجربة المطار. بدت يد الولاياتالمتحدة طويلة، وبدا ان حدودها ليست على اراضيها بل هي في أي مكان يمكن العبور منه اليها. وقبل ساعتين من الهبوط، وزعت على المسافرين بطاقات لدخول الولاياتالمتحدة، وللتصريح عن المنقولات، وهنا مظهر آخر لسطوة واشنطن. المضيفون والمضيفات عكفوا على شرح كيفية تعبئة البطاقتين من دون كلل. وبُث فيلم قصير لشرح اضافي. البطاقتان هما ذاتهما المستخدمتان قبل 11 ايلول. لكن الاهتمام بهما كان أكبر. وتحولت تعبئتهما امتحاناً في الدقة وفي الخط. لامست الطائرة الارض خرجت الى بهو المطار لأستقل الطائرة المتوجهة الى سان خوان في بورتوريكو، واذ بنحو اكثر من ألف شخص يقفون صفاً واحداً يتعرج كمتاهة على عرض القاعة وطولها في مواجهة شبابيك دائرة الهجرة وعددها اكثر من ثلاثين، وينتهي الصف الى مسافة وسط القاعة امام الشبابيك، حيث تقف شرطية توجه المسافرين الى الشبابيك الخالية. وكلما طالت مدة الانتظار، كلما ازداد وارتفع تذمر المسافرين، وبما ان صف الانتظار يمتد جيئة وذهاباً، فيمكن لأشخاص متجاورين سماع التذمر. وفجأة يلفظ احد المسافرين كلمة "تروريست" ارهابي فتسود همهمة، وبعدها هدوء كامل، يقطعه تعليق يقول "هذا لمصلحتنا". ويتحول الانتظار واجباً وطنياً يمارسة الاميركيون بارتياح على رغم ما يتسببه من ازعاج غير معتادين عليه. وكلما طالت صفوف المنتظرين، كلما ازدادت حدة الانتقادات الموجهة للارهابيين المفترضين، للعرب وللمسلمين، لكن الانتقادات هذه لا تخرج عن اطار السؤال لماذا نحن؟ ولماذا يقحموننا في قضاياهم؟ ولا تتجاوز في حدتها ان تكون مجرد ايماءة بالرأس تعني انهم يتفهمون ان الحال هذه عابرة، وان العداء للولايات المتحدة لا بد ان ينتهي قريباً. الرحلة بين نيوآرك وسان خوان تعتبر من الرحلات الداخلية، فبورتوريكو تتبع لكومنولث الولاياتالمتحدة وتستخدم الدولار، ويسمح لمواطنيها بحرية العمل داخل الاراضي الاميركية من دون اقامة او اي اذن ولها ممثلان في الكونغرس الاميركي يحضران كمراقبين من دون ان يصوتا. وعادة يسافر الاميركيون الى بورتوريكو وبالعكس ببطاقات عادية، كبطاقة الضمان او رخص السوق او حتى البطاقات المدرسية. وبعد اعادة النظر في الاجراءات الامنية داخل المطارات في اعقاب اعتداءات 11 ايلول، توجب على المسافرين حمل بطاقات رسمية عليها صورهم الشمسية، ويخضعون للتفتيش وكأنهم مسافرون من خارج الولاياتالمتحدة. وقبيل التوجه الى سان خوان تكررت قصتي مع جهاز الكومبيوتر الذي كادت بطاريته ان تفرغ، ما تحول هماً اضافياً، خصوصاً انني لم انقل في حقيبتي المحمولة شاحناً كهربائياً. في مطار سان خوان كانت الامور عادية تسلمت امتعتي وتوجهت الى قاعدة "ادواردز رود" الجوية. ولدى العودة من غوانتانامو الى سان خوان ختم جواز سفري بتأشيرة دخول جديدة ومنحت اقامة محددة بسبعة ايام فقط. وعادة كان ضباط الهجرة يمنحون اقامة لا تقل مدتها عن الشهرين. في المطار سألت احد موظفي شركة "كونتيننتال" عن سبب حظي العاثر فأجاب مصراً على عدم نشر اسمه: ان السبب في ذلك جواز سفري وكوني اسافر وحيداً. فقلت له ان المفتشين على البوابات يطلبون مني الانتقال الى جهة التفتيش قبل الاطلاع على جواز السفر. فقال الموظف ان العاملين خلف شبابيك اصدار بطاقات دخول الطائرة، يحددون بختم خاص على البطاقة بعد الاطلاع على جواز السفر وسؤال حاملها عن وجهته، نوع اجراءات التفتيش الذي سيخضع لها. ورفض الموظف تحديد ما اذا كان هؤلاء العاملون تلقوا تدريباً امنياً ام انهم مجرد موظفين في شركات الطيران. وعادة يكون الخاضعون لتفتيش خاص من الاجانب، ولكن يوجد بينهم بعض الاميركيين والكبار في السن منعاً لأي تهمة بالتمييز. وصدق ما قاله الموظف، اذ بمجرد تسلمي بطاقة صعود الطائرة طلب مني احد العاملين على بوابة الخروج التوجه الى طاولة على الجانب الآخر لتفتيش الحقائب، وهذا روتين اعتدت عليه. وبعد عبور البوابة، وقبيل دخول الطائرة يتوجب على المسافرين المرور من باب للمسح الاشعاعي، مجردين من كل ما ينقلونه من معادن، وذلك للمرة الثانية، اذ يوجد باب مماثل قبل البوابة. اخذت اغراضي وهممت بدخول الطائرة، نادتني ضابطة، وأشارت الى قنينة مياه صغيرة اشتريتها من المطار، طلبت مني ان اتناول جرعة. امتثلت، فكررت طلبها. هنا بدأ الغيظ يتملكني. أنهيت شرب ما في القنينة. وللمرة الاولى ارى سيدة أمن تبتسم بسخرية مرة، وقالت بتهذيب: "سيدي بامكانك التوجه الى غرفة الحمام عند مدخل الطائرة". الخروج من الولاياتالمتحدة، من مطار نيوآرك يقارب ان يكون تعسفياً. فاجراءات التفتيش خرجت عن المألوف الذي اعتدته خلال رحلات الاسبوع السابق، فالى تفتيش الحقائب وجهاز الكومبيوتر والتفتيش الجسدي الدقيق بماسحة صغيرة ومن ثم باللمس والاجبار على خلع الحذاء والتدقيق في كعبه، هناك تحقيق مفاجئ داخل الانبوب المؤدي الى الطائرة. اعترضني شرطي يحمل شارة دائرة الخزانة على جيب سترته. وسألني ما اذا كنت اعرف انه سيستوقفني، اجبت بالنفي، فأخرج بضع وريقات من جيبه تحدد مهمته وتحدد حقوقي وبدأ يسأل عن سبب الرحلة وعن كمية الاموال التي انقلها وما اذا كنت قد اخذت اموالاً من اشخاص مقيمين في الولاياتالمتحدة. وما هي الصحيفة التي اعمل فيها، وما اذا كنت احمل نماذج من عملي... الى ما لا نهاية، وبعد نحو ربع ساعة اعتذر وانصرف. وفي مدخل الطائرة شرطيان بالزي نفسه ومعهما كلب، طلبا مني التوقف، وأومآ للكلب بأن يشمني صعوداً ونزولاً... وهنا كدت افقد اعصابي، خصوصاً ان المسافرين يمرون بجواري وكأنني السبب في طول تأخرهم. الرسالة في المطارات الاميركية واضحة لا لبس فيها، ان لم تكن مضطراً للقدوم فمن الافضل ألاّ تأتي.