في عام 1926 م اعترف الاتحاد السوفيتي بالدولة الناشئة المملكة العربية السعودية على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ورجاله الأوفياء، ومنذ ذلك الوقت والعلاقات السعودية الروسية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لم يؤثَر أن روسيا تدخلت في الشأن الداخلي السعودي كما لم تتدخل المملكة في الشأن الروسي؛ وهذا ما أعطى العلاقة بين البلدين عمقاً استراتيجياً شكلاً توازناً في العلاقات البينية والدولية من خلال المواقف المشتركة والموحدة تجاه معظم القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وخلال هذه العقود توالت الزيارات البينية بين المسؤولين في البلدين، حيث زار رئيس الوزراء الروسي السعودية ضمن جولة خليجية عام 1994 م وتم التوقيع على عدد من الاتفاقيات في مجال الاقتصاد والتقنية والتجارة وفي عام 2003 م زار الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- عندما كان ولياً للعهد موسكو وحظي باستقبال مميز، يعكس رغبة البلدين في تعميق العلاقة حيث وُقِّعَ عدد من الاتفاقيات في مجال الغاز والنفط والتكنولوجيا. أما في عام 2007 فقد زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المملكة مع وفد رفيع من رجال الأعمال والاقتصاد وتم التعاون في مجال الفضاء والطاقة والتكنولوجيا الذرية وعدد من الاتفاقيات في المجال العسكري. وتوالت الزيارات من قبل المسؤولين في البلدين توجت بزيارة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان عام 2015م والتي فتحت أفاقاً للتعاون البناء في شتى المجالات ومهدت الطريق للتحول في العلاقة بين البلدين إلى شراكة استراتيجية تقوم على أساس التعاون المثمر البنّاء الذي يسعى لنقل الخبرات والتقنية الروسية في مجال الطاقة المتجددة والفضاء والطاقة الذرية والصناعات العسكرية والتعاون الثقافي والبيئي وهذا ما جعل زيارة خادم الحرمين الشريفين تأتي تتويجاً لهذا التوجه من البلدين نحو إيجاد تكتل استراتيجي يخدم مصالح البلدين لا سيما وأن روسيا هي القطب الثاني في مجلس الأمن وصاحبة الفيتو فيه، كذلك تعد هذه الدولة أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وأكبر مصدر للنفط من خارج أوبك. كل هذه المعطيات تأتي زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله لتضع حجر الأساس لبدء مرحلة جديدة وتاريخية ومفصلية في العلاقات الروسية السعودية نحو بناء شراكة وتعاون استراتيجي مثمر. ونستطيع أن نقرأ في هذه الزيارة أبعاد متعددة على مختلف الأصعدة منها: البعد السياسي: نعلم ما عانى العالم بأكمله والعالم العربي من تقلبات جيوسياسية وصراعات أثرت على مسيرته وعلاقاته فهذه أربع دول عربية لا زالت تئن من نير الحروب والتمزق الذي جاء بفعل المؤامرات الدولية التي كانت إيران ومن يدور في فلكها من الدول والمنظمات طرفاً فيها، أيضاً كانت للسياسة الأمريكية المنكفئة المتخاذلة منذ 2014م مع قدوم أوباما للبيت الأبيض وأمريكا فقدت دورها كدولة عظمى ترعى الأمن والسلام العالميين بل كان تدخلها في هذه الصراعات سلبياً ولا يرقى إلى مكانة دولة عظمى، ففي العراق كان التوجه لدعم النفوذ الإيراني وفي سوريا كذلك اتبعت سياسة غض الطرف والكيل بمكيالين دون اتخاذ موقف حاسم، كذلك أبرمت اتفاقاً نووياً هزيلاً مع إيران يجعلها دولة نووية بعد عقد من الزمن، ولا ننسى سياسة الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد الذي كانت السياسة الأمريكية لاعباً فيه وما نتج عنها من صراعات وثورات لم تجني منها الشعوب إلا الدمار والهلاك. عبر هذا المشهد كان الموقف الروسي متأرجحاَ أو محايداَ إلا عندما بدأت الثورة السورية انضمت روسيا طرفاً فاعلاً في الصراع ودعم نظام بشار ضد ثورة الشعب الأعزل. هذا الموقف الروسي في الأزمة السورية لا شك أنه قد أثر على سير عدد من الملفات التي كانت حاضرة في العلاقات الروسية السعودية في المجال الاقتصادي والصناعي والتجاري. وفي اعتقادي أن خلط الملفات جميعها ووضعها في سلة واحدة ربما لم يكن موفقاً حيث يفترض أن يكون لكل ملف مسار خاص به بحيث إذا تعرض مسار أو ملف لصعوبات أو مشاكل يجب أن تبقى بقية المسارات والملفات في عملها وفق ما خطط لها. وهذا ما أعتقد أنه سيؤخذ به من خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين حيث سيتم التركيز على المشتركات التي تربط المملكة بروسيا وهي متعددة ومتنوعة وتترك الملفات المختلف فيها وهي محدودة جداً على طاولة البحث لمواصلة البحث عن الحلول الناجحة. البعد الاقتصادي: ظل التبادل الاقتصادي والتجاري بين السعودية وروسيا دون المأمول ودون الطموح حيث لم يتعدى هذا التبادل نصف المليار حتى عام 2008م وإن كان قد زاد في الأعوام اللاحقة لكنه لم يصل إلى حجم التبادل السعودي الصيني أو الياباني، بل بقي عند حدود متواضعة، ولعل من أسباب تواضع هذا التبادل هو تأثر ملفات الاقتصاد والتجارة بالملفات السياسية وهذا ما أعتقد أنه يجب أن تفصل الملفات عن بعضها. من المرجح أن يتم في هذه الزيارة المباركة عقد شراكات في العديد من المجالات الحيوية مثل الصناعات العسكرية وتكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية وفي مجال التجارة والبيئة والثقافة وتكنولوجيا الطاقة المتجددة وتحلية المياه المالحة. البعد العسكري: تتميز روسيا بالعديد من الصناعات العسكرية الاستراتيجية والتي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي السابق إبان الحرب الباردة وسباق التسلح الروسي الأمريكي فلديها صناعات متطورة في مجال الصواريخ الاستراتيجية مثل صورايخ إس 300 وإس400 والتي يُزمع أن يتم تزويد المملكة بهذه المنظومة المتطورة جداً منها، كذلك في مجال صناعات الطائرات وعلوم الفضاء للأغراض العسكرية تمتلك روسيا خبرات متقدمة في هذا المجال وتتطلع المملكة إلى عقد شراكات في هذه المجالات كما جاء في خطة التحول 2020 ورؤية المملكة 2030 التي ستتحول فيها المملكة من بلد استهلاكي إلى بلد صناعي منتج. ويضاف لما سبق التفوق الروسي في مجال الصواريخ البالستية والفضائية والعابرة للقارات والتي تطمح المملكة إلى إيجاد تعاون لامتلاك هذه المنظومات إضافة إلى أسلحة القوات البرية مثل الدبابات والألويات المدرعة وناقلات الجنود والأسلحة المتوسطة والخفيفة والتي تعد روسيا متقدمة في هذه الصناعات. ويضاف إلى الأبعاد الاستراتيجية السابقة الكثير من المجالات التي يمكن لروسيا أن تكون شريكاً فاعلاً فيها مثل الثقافة والإعلام والبيئة والسياحة والآثار وتقنية المعلومات والبنى التحتية والإسكان وغيرها. من هنا تتضح الأهمية الكبيرة التي تحملها هذه الزيارة في طياتها والتي تؤكد قوة ومتانة واستقلالية القرار السعودي الذي لا توجهه أي قوة على الأرض فالقرار السعودي ينطلق من مصالحها وفق رؤية ثاقبة تسعى لإيجاد التوازنات والحفاظ على المصالح المشتركة لا سيما وهي لا تعبر عن بعدها الجغرافي فحسب بل هي تحمل هموم وطموحات وآمال الشعوب العربية والإسلامية. ولذا فإن المملكة بقيادتها الحكيمة لا تألو جهداً في العمل الجاد لما فيه مصلحة الشعوب العربية والإسلامية انطلاقاً من أرض المحبة والسلام مهد الرسالات وموطن الحرمين الشريفين.ونجزم أن زيارة الخير من لدن سلمان الخير ستعود بالنفع العميم على المملكة والعالم العربي والإسلامي.