كان والدي -رحمه الله- يحمل شنطة أدوات «القابلة»، أو «الداية» في لهجاتٍ أخرى، تلك التي وُلدنا أنا وإخوتي على يديها، ينتظرها حتَّى يعيدها لبيتها، وأحيانًا يكون الوقت ليلاً، حيث وحشة الطرقات، وهواجس الظلام، فتعبرها تلك السيدة الفاضلة من بيتها إلى صرخات ولادتنا، في بيوتنا، فتشرف على ولادة أمَّهاتنا، وتساهم بصورة نبيلة وحرفيَّة معًا على وجودنا في هذه الحياة. واليوم تصلنا أنباء تصريحات، وصراخ أخينا «سعيد بن فروة»، يهاجم فيها أولياء الأمور الذين يسمحون لبناتهم بالدراسة في كليات الطب، والصيدلة، ووصفه إيَّاهم ب»المجرمين». وقبل الاحتجاج، أو الجدل، فيما لا يُجادل فيه، وددتُ سؤاله: كيف جاء هو إلى الدنيا؟ ومَن ساعد أمَّه على مجيئه؟ وكيف سينجب أولاده إنْ لم تأخذ بيديهم طبيبة في عصر لا يحتمل إلاَّ العلم، ولا يكون إلاَّ بالتعلُّم؟ فبناتنا الطبيبات إنَّما وُجدنَ وتعلَّمن ليقمنَ بواجبهنَّ الإنسانيّ، والدينيّ أيضًا، وذلك بالمساهمة بعلاج نسائنا، ورجالنا في كل الأوقات، وكلّ الظروف، ويغادرن بيوتهنَّ وأسرهنَّ لتوليد نساء وطني، يفرحن بالشفاء، سواء كان المريض رجلاً أو امرأةً.. ثم يجيء مَن يصم أهلهنَّ الداعمين لهنَّ بألفاظ بذيئة، يرفضها الدِّينُ والحياةُ معًا. عندما سمِعَتْ ابنتي الطبيبة «أحلام» الاتِّهامات، أخذت نَفَسًا عميقًا، نظرتْ لي، وعيناها تموجان بالفرحة قائلةً: أمّي أحببتُ الطبَّ حتَّى أخفِّفَ معاناة البشر.. عندما سمعتُ اتِّهاماتِهِ لك، ولأبي الغالي على قلبي، لم أبكِ.. لم أضرب الجدران.. لم أحطِّم كلَّ شيء حولي.. بل أكملتُ يومي في العلاج، والبحث عن كلِّ جديد في علاج البشر! أحببت الطبَّ، وغفرتُ إساءةَ أبو فروة؛ لأنَّ حبَّ الوطن يتطلَّب الكثير من الغفران.. المرءُ لا يحظى إلاَّ بوطن واحد يا أمّي، وهذا هو وطني. نحن أغنياء بثقة مريضنا، وثقة أهلنا بنا، وهذه هي أعظم ثروة نملكها... كانت الكلمات تسيل من فمها بردًا وسلامًا على روحي، ثمَّ.. نهضت مودعةً.. احتضنتني وقالت: لا تهتمِّي، سيأتي «كلّ أبو فروة» يومًا إلى المستشفى ليقول: «ما أبي دكتور «رجَّال» يكشف على زوجتي»!! [email protected]