قديمًا كانت الهجرة تحدث من القرى الفقيرة إلى المحافظات الغنية بسبب نقص الخدمات وقلة الوظائف، التي لا يجدها المهاجر إلا في المدينة، تطور الأمر الآن لتصبح الهجرة عكسيا من المدينة إلى القرية، بسبب الزحام وغلاء المعيشة وأمور أخرى تدفع المواطن إلى اتخاذ قرار الرحيل والعودة إلى القرية، حيث الهدوء والبساطة و»العيشة التي لا تتكلف كثيرا». في محافظة الطائف على سبيل المثال، لوحظ البدء في الهجرة العكسية إلى القرى نتيجة ارتفاع الإيجارات للمنازل وتضخم أسعار الأراضي بشكل كبير، حيث ساهمت المشروعات الحيوية في تلك الهجرة في ظل سهولة الوصول إلى القرى وتوفير الخدمات المختلفة في جميع المواقع دون استثناء. وفي محافظات منطقة عسير أصبحت الخدمات والمشروعات التنموية كفيلة بالحد من ظاهرة الهجرة العكسية، التي تنامت خلال العقدين الماضيين، وكان المئات من السكان فضلوا الهجرة في سبيل تعليم أبنائهم في جامعات المملكة المختلفة، إلا أن وجود الجامعات والكليات في مختلف المنطقة أعادت الهجرة العكسية. وتشهد منطقة الباحة أيضًا هجرة عكسية في ظل تنامي الخدمات وتطوير المرافق بعد أن كانت أكثر المناطق، التي يهاجر منها السكان للعمل في المدن الكبيرة، والبحث عن فرص العمل الوظيفية.. وفي منطقة جازان زادت الهجرة العكسية في الفترة الأخيرة والتي أسهمت في زيادة الاستثمار بعد عودة الأسر من المناطق الرئيسة. متخصص بعلم الاجتماع: تضخم الخدمات في المدن وراء التوجه للقرى يقول الدكتور عبدالعزيز الغريب، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود: إن الهجرة العكسية أحد الموضوعات الهامة، التي يدرسها علم الاجتماع، وفي علم اجتماع السكان بشكل خاص كفرع من فروع علم الاجتماع.. ورغم أنها أصحبت ظاهرة إلا أنه مع الأسف لا توجد إحصاءات دقيقة حول حجمها وخصائصها بشكل دقيق رغم أهمية ذلك اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بل إنه مهم من منطلق الرؤية التخطيطية للخدمات في المدن والمحافظات السعودية. وعلى كل حال هي ظاهرة أصبحت لافتة في ظل تضخم الخدمات في المدن، وبعد انتشار الجامعات في مختلف المناطق، والتي بلغت 28 جامعة تضم ما يصل إلى 600 كلية، وفي ظل تضخم الضغط الخدماتي في المدن الكبرى، إضافة إلى تطور الخدمات الصحية إلى حد ما في المدن والمحافظات، وسهولة الحصول على قطعة أرض لتدني أسعارها بالمقارنة مع المدن الكبرى في ظل ازدياد وتيرة الحصول على قرض سكني من الصندوق العقاري، إضافة إلى أن هذه الظاهرة أيضًا ازدادت عند المتقاعدين ورغبته في العمل في الزراعة أو تربية الحلال أو بدء مشروع تجاري بسيط والعودة للعلاقات القرابية التقليدية بعد ذهاب أصدقاء الكرسي والوظيفة مع تقاعد الشخص. كما أن التعيين في المدن والمحافظات خاصة للمعلمين والمعلمات وشعور الناس بقدرتهم على الادخار والتقليل من الاستهلاك في المدن الكبرى جعلهم يميلون أكثر للاستقرار في المدن. وأضاف أن هناك عوامل بيئية ساهمت في ذلك منها الخدمات، وعوامل اقتصادية في الرغبة في الادخار والتقليل من الاستهلاك، وعوامل اجتماعية مرتبطة بسن التقاعد أو العودة للارتباط التقليدي بالعلاقات القرابية الأوبية، وعوامل شخصية ترتبط ببعض الحالات التي تخشى مواجهة الناس فتفضل السكنى في مدن ومحافظات أقل صخبًا وضجيجا. متخصص بعلم الجغرافيا: تطور الأرياف يزيد المهاجرين إليها يقول الدكتور علي معاضة، أستاذ الجغرافيا بجامعة الملك سعود، إنه لن تتغير المناطق الصغيرة والريفية ما لم تتغير ظروف التنمية، حيث لا يوجد خطة تنمية استراتيجية بكل أسف إذا وجدت الخطة تكون الخطوة التالية، وهي التنفيذ ومن ضمن البرامج والأهداف التي لابد أن تحققها هذه الاستراتيجية توطين الوظائف (وفق طبيعة المنطقة ومواردها الطبيعية والبشرية). ومن ثم فإن الهجرة العكسية تبقى كلاما نظريا إلا إذا حدث تطور تنموي في الأرياف، وفي كل الأحوال لن تكون الهجرة العكسية كبيرة، لأن هناك عوامل من أهمها الخدمات النوعية، وأهمها النقل العام. ويضيف: لم تقف وتيرة الهجرة من منطقة الباحة منذ عقود، وتبين الإحصاءات تناقصا في عدد القرى كل سنة الاقتصاد المعرفي المرتكز على التقنية قد يكون حلا للتعليم والتوظيف في المنطقة، وتأهيل المناطق الأثرية وزيادة الخدمات السياحية عددا ونوعية ينعش المنطقة اقتصاديا - حتى لو كان فصليا وضم القنفذة إلى الباحة وتفعيل دور المجلس الاستشاري في المنطقة وإعداد قاعدة بيانات جغرافية تفصيلية للمنطقة تكون عونا للمخططين والإداريين والمستثمرين والباحثين فمثل هذه الخطوات لابد أن تساعد حتى لو لم تكن هناك خطة تنمية استراتيجية. ومع كل ذلك لا عذر للمسؤولين في المنطقة في عدم القيام بإعداد هذه الخطة هذه الطريقة العلمية العملية هي الحل للهجرة بشكل غير مباشر لكنها وسيلة إدارية بدهية لابد من اتباعها للنهوض بحال المنطقة تنمويا من جميع الجوانب. أستاذ تخطيط: خلق فرص العمل يحد من الهجرة أكد الدكتور عبدالله المدهري، أستاذ التخطيط بجامعة الدمام، أن هناك عوامل كانت طاردة في منطقة الباحة، ومنها الفقر فقد كبرت الأسر وكثرت متطلبات الحياة وتدهورت الموارد المحلية، وانخفضت قيمتها حيث الزراعة. وأشار إلى أن هناك عوامل جاذبة لسكان منطقة الباحة ومنها توفر فرص عمل وارتفاع الدخل في أماكن أخرى أفضل مما هو متاح في قرى المنطقة وتوفر فرصًا تعليمية وتدريبية للمهاجرين وأبنائهم لم تكن متوفرة في منطقة الباحة وتوفر الخدمات الاجتماعية مثل المستشفيات والسكن والمرافق ووسائل الترفيه وغيرها، وانتعاش التجارة في المدن عنها في القرى والأرياف. ولذلك تجد منطقة الباحة أمام تحديين هما.. أولًا: منع أو التقليل من هجرة أبناء المنطقة إلى مناطق أخرى وثانيًا: إعادة أبناء المنطقة إلى قرى ومدن منطقة الباحة. وأضاف أن تحقيق التحدي الأول يقع على عاتق الغرفة التجارية الصناعية بالباحة، حيث تلعب الغرف التجارية الصناعية دورا أساسيا وهاما في خلق فرص للاستثمار وتطوير فرص التجارة والصناعة لأبناء المنطقة ورجال الأعمال والمستثمرين في المملكة. وللإمارة دور بارز في محاولاتها خلق فرص عمل للشباب في منطقة الباحة، وذلك من خلال توفير فرص عمل لشباب المنطقة، وذلك بالتوسيع الخدمات والمصالح الحكومية لفتح فرص عمل أكبر للشباب والسعي لدى الوزارات والمؤسسات الحكومية لإنشاء مراكز تدريب متخصصة وثابتة للقوات البرية والجوية وإنشاء قاعدة عسكرية في المنطقة والسعي لإنشاء بعض الكليات العسكرية والمعاهد المتخصصة، وإنشاء مراكز علاجية متخصصة ونقاهة في المنطقة لما تتمتع به من أجواء جميلة ومناظر خلابة وإنشاء أندية صيفية للطلاب تستقطب الطلاب من جميع مناطق المملكة خلال فصل الصيف. أستاذ اقتصاد زراعي: 1.6 مليون مهاجر من الريف للمدينة يقول الدكتور إبراهيم الحميدي، إستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القصيم: إن مناطق الرياض ومكة المكرمة والمنطقة الشرقية كانت من أهم مناطق الجذب لسكان المملكة في ذلك الوقت ومنطقة الجوف وحائل والباحةوالقصيموالمدينةالمنورة، إضافة إلى مناطق أخرى زراعية ورعوية يبحث أهلها عن فرص أرقى للتعليم والعمل، كمنطقتي جازانوعسير. وتعتبر منطقة جازان من أكبر مناطق المملكة خسارة للسكان عن طريق الهجرة ونلاحظ أن جازان قد خسرت أمام جميع مناطق المملكة ما عدا الباحة، حيث تأتي في المرتبة الثانية من بين مناطق المملكة من حيث صافي الهجرة السالب وفي المرتبة السادسة من حيث الهجرات المغادرة. ويشير الدكتور إبراهيم عبدالله الحميدي إلى أن مجموع المهاجرين من عموم أرجاء مناطق الريف في المملكة باتجاه المدن بلغ 1.699.310 أفراد، وأنهم يشكلون11.55% من مجموع السكان الموجودين داخل المملكة أثناء عملية المسح. وأضاف أن أكثر من نصف تلك الهجرات وبنسبة تبلغ 70.41% تتجه نحو المناطق الثلاث الكبرى في المملكة وهي الرياض ومكة المكرمة والمنطقة الشرقية، في حين برزت مناطق جازانوالباحةوعسيروالقصيم كأكبر المناطق فقدا للسكان، والتي تجاوزت ثلاثة أرباع صافي الهجرة 77.98% الكلي للبلاد، وأن أعلى فئة عمرية تتم بها هذه الهجرات لكلا الجنسين كانت بين سنوات 25-29 والتي بلغت 12.28% من مجموع هذه الهجرات. وجاء في الدراسة أنه لم يظهر أي فرق بين الجنسين في هذه الهجرات الداخلية والتي بلغت بالنسبة للذكور والإناث 50.94%، 49.06% على التوالي. رئيس مركز البحوث: السياحة والخدمات وراء ارتفاع قيمة الأرياف أكد الدكتور إسماعيل كتبخانة، رئيس مركز البحوث في كلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز، هناك بوادر لهذه الهجرة، فوجود كليات مجتمع، وتوافر جميع مرافق الخدمات وتنشيط السياحة في هذه الأرياف يحقق نموا متوازنا في كل المناطق فيما أكد الدكتور عبدالرزاق حمود، رئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع، أن توصيات ملتقى الندوة الريفية، والتي أقيمت مؤخرا بمنطقة الباحة تضمنت التوسع في الجمعيات الخيرية، خصوصًا المتخصصة وتوسيع النطاق العمراني والمخططات السكنية ومراعاة الفروق بين المدن والقرى، حيث إن الأملاك في القرى أراض مملوكة أبا عن جد، وكذلك السماح بالتوسع العمودي في البنيان، ودعم المنطقة بالقروض الزراعية والسكنية، وإقامة مشروعات سكنية وحل مشكلة المياه حلا جذريا، بحيث يكون مشروعا مستقلا، والعمل على إيجاد مستشفيات ومراكز صحية متخصصة وتطوير المنتجات الزراعية، وإنشاء مراكز بحثية للإنتاج الزراعي ودراسة منتجات المنطقة، لكي تتحقق التنمية الريفية الحقيقية. مسار خاص لتنمية المدن الصغيرة يجعلها أكثر جذبا للسكان يقول المهندس أيمن بن زريعة الشيخ مهندس في التخطيط العمراني: إنه من الضروري أن تكون المدن والمحافظات قادرة على أن تستوعب كل تلك الأعداد القادمة من الجامعات والكليات فيها وتوفر من الفرص الوظيفية المناسبة لهم بحسب تخصصاتهم التعليمية والفنية، والتي ستعزز بشكل أساسي من نمو المدن والمحافظات الصغيرة إلى جوار الاستفادة من الموارد الطبيعية المختلفة، والتي وهبها الله عزوجل لكل جزء من هذه الأرض المباركة.. والتفكير العميق في دراسة تطور هذه المدن والمحافظات المتوسطة والصغيرة يضعنا أولا أمام تحقيق وتأكيد أننا لا نرغب في تكرار أخطاء المدن الكبيرة بجعل المدن الصغيرة والمحافظات على صورة مكررة من المدن الكبيرة بصورتها الحالية، والتي يتعايش ساكنيها في ظل وجود قصور كلي في العديد من الخدمات العامة والأساسية وتأخر في تحقيقها على مستوى المدينة بجميع أجزاءها . و اضاف أن التعويل على الهجرة العكسية سيعتمد بشكل كبير على تحقيق عدة أمور ولكن تحقيق عوامل الاستقرار الأساسية هو الأجدى في هذه المرحلة بيد أن تخرج المدن المتوسطة والصغيرة من مسار التطور الذي تسير به متتبعة للمدن الكبرى إلى مسار تطوير خاص بها يركز على عدة عوامل ترتبط بالمكان نفسه سواء كانت المدينة أو المحافظة أو القرية الصغيرة لتدرس احتياجات المكان وتتعرف على موارده ونقاط القوة والضعف فيه لتقوم بعد ذلك بعمل خطط تطوير فريدة قد تتقاطع مع المدن الأخرى المجاورة لها ولكن بالطبع لا تتشابه في كل شيء تحقيقًا لهوية مختلفة بحسب طبيعة كل مدينة ومحافظة. من جانبه قال حسن عسيري إن وزارة التعليم العالي (سابقا) اتجهت إلى إحداث عملية الهجرة العكسية، وتوطين التعليم في المحافظات وتمكنت الوزارة من تنفيذ خطة نموذجية لتوطين التعليم في المحافظات والهجر وفق النظام المعتمد في كل الدول المتقدمة. وكيل إمارة الباحة: التنمية المتوازنة تزيد الهجرة العكسية أوضح وكيل إمارة منطقة الباحة للشؤون التنموية الدكتور فيحان بن حمود العتيبي أن منطقة الباحة تشهد تطورا تنمويا في كل المجالات الصحية والاجتماعيه والسياحية والتعليمية، وفي مجال الطرق والمياه والكهرباء والاتصالات الهاتفية المختلفة، وذلك بتوجيهات ومتابعة صاحب السمو الملكي الأمير مشاري بن سعود بن عبدالعزيز، أمير المنطقة، الذي يبذل جل وقته في السعي بقوة إلى تحقيق التنمية المتوازنة المستدامة في جميع محافظات ومراكز المنطقة، مما أوجد هجرة عكسية إلى المنطقة، ومن خلال وجود المشروعات الحيوية الكبيرة، وتدعيم البنى التحتية وكل مقومات التطوير النوعي في مختلف مسارات البناء التنموي ولاغروى في ذلك فسموه الكريم يملك إحداث الفرق والتميز.