برحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله-، يكون العالم قد خسر بذلك زعيما ملهمًا في الحرب على الارهاب، ولم يكن مستغربًا أن تؤكد الأيام والوقائع على الأرض صدق الرؤية الاستشرافية التي تمتع بها الزعيم الراحل في هذا الملف الذي بات يمثل كابوسًا للعالم بأسره، ولعله من اللافت للنظر الإشارة إلى أن رؤية الملك عبدالله لم تقتصر على مجال بعينه في المواجهة، وإنما تنوعت بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني حتى تحقق أهدافها كاملة، في عام 2003، وعندما واجهت المملكة هجمة إرهابية استمرت لعدة سنوات راح ضحيتها الكثير من الأبرياء فضلاً عن الخسائر المادية الكبيرة التي أصابت الوطن، وقف الملك عبدالله -يرحمه الله- شامخًا في المواجهة بقوله: "نحن قادرون على مواجهة الإرهاب حتى لو استمر 30 أو 50 عامًا"، وذلك انطلاقا من رؤيته التي عكسها في كلمته في مجلس الشورى مؤخرًا بوضوح شديد وجاء فيها: "الأمن يظل هاجسًا أساسيًا لنا جميعًا وشهدنا العام الماضى محاولات مستميتة من الفئة الضالة وعناصر التخريب ودعاة الفرقة وذلك للنيل من استقرار بلادنا ووحدتها، فكان الرد عليها في المواقف الرائعة من المواطنين على مستوياتهم كافة مما أثلج الصدر وطمأننا إلى صلابة وحدتنا الوطنية"، وقد كان لهذه الرؤية المبكرة آثارها وانعكاساتها على الواقع الميداني حيث أحبطت الضربات الاستباقية لرجال الأمن البواسل أكثر من 200 مخطط إرهابي لاستهداف مكتسبات الوطن، كما دعت المملكة إلى مؤتمر الرياض لمكافحة الإرهاب في عام 2004 من أجل وضع أسس المواجهة مع الإرهاب على المستوى الدولى والتي تبدأ من خلال إقرار تعريف واضح للإرهاب، وإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب على الصعيد المعلوماتي بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من عدم حماس الكثيرين للتعاون من أجل أن يخرج المركز إلى النور، إلا أن المملكة بقيادة الملك عبدالله -يرحمه الله- ظلت وراء الفكرة حتى خرجت إلى النور تحت رعاية الأممالمتحدة وتبرعت لها ب100 مليون دولار حتى ينطلق المركز في عمله بدون معوقات. شمولية المواجهة ولقناعته التامة بأهمية وشمولية المواجهة ضد الإرهاب حتى تحقق النجاح المرجو منها، لأن الهدف هو إعادة تأهيل الجانحين إلى الإرهاب من أبناء الوطن، تم إنشاء مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة، الذي أثمرت جهوده خلال السنوات الماضية عن تأهيل أكثر من 3000 إرهابي وتكفيري، من أبناء الوطن، وقد عادوا ليساهموا -وبعون الله- في مسيرة التنمية التي تعيشها المملكة حاليًا، وقد حازت تجربة المملكة في هذا المجال على تقدير مختلف دول العالم، التي شرع الكثيرون في تطبيقها، وتعتمد التجربة السعودية على إجراء مراجعة فكرية وفقهية واجتماعية للمفاهيم السائدة لدى الإرهابيين من أجل إعادة تصحيحها ومن ثم إعادتهم إلى طريق الصواب، ويعمل على إنجاح التجربة علماء مستنيرون وخبراء في علم الاجتماع والنفس، ووفقًا للواء منصور التركي المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية، فإن نسبة النجاح في دمج العائدين من الإرهاب تصل إلى 88% وأن الجهود جارية حاليًا من أجل رفع هذه النسبة في المرحلة المقبلة. نقد العلماء وفي 3 أغسطس من العام الماضي وفي إطار قناعته بأهمية دور العلماء في مواجهة الإرهاب، وجه الملك عبدالله -يرحمه الله- انتقادات إلى رجال الدين والدعاة قائلاً: "إن فيهم كسلاً" حيال بعض ما يجرى في المنطقة، وذلك في إشارة منه إلى تمدد التنظيمات الإرهابية وفي صدارتها داعش في دول المنطقة مما قد يهدد أمن المملكة، وبشجاعته المعهودة قال: إنه سيتقدم الصفوف في المواجهة، مستنكرًا: كيف يذبح البشر كالغنم؟، وفي هذا الإطار قال: "تعرفون كلكم من هم الشاذون، ومن هم الحاقدون، حتى على أنفسهم حاقدون، كيف يمسك الأنسان الانسان ويذكيه مثل الغنم"، وكان من ثمار هذا التوجيه أن تغيرت البوصلة تمامًا، وبات العلماء أكثر إدراكًا بحجم التحدي وضرورة التصدي لتعرية الفكر الإرهابي المتطرف. وفي 30 أغسطس الماضي، أطلق خادم الحرمين الملك عبدالله -يرحمه الله- تحذيرًا لدول العالم بضرورة التصدي لتنظيم داعش الإرهابي، مشيرًا إلى أنه إذا لم يتم التصدي للإرهاب فإنه سيصل إلى أوروبا وأمريكا خلال شهرين، وأدت هذه التحذيرات إلى قيام التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الإرهابي من مختلف دول العالم، والذي يتجه حاليًا إلى بحث التدخل البري حتى تحقق الهجمات الجوية النجاح المنشود، ولعله من اللافت أن نشهد تحذيرات الملك عبدالله وقد تحقق جزء منها عندما وقع الهجوم الأخير على مجلة شارلي إيبدو الفرنسية وانتفض العالم في مظاهرة مليونية مؤخرًا من أجل مواجهة الإرهاب، لقد كانت رؤية المليك تقوم على ضرورة محاربة الإرهاب بالقوة والعقل والسرعة ويقول في هذا الصدد "الإرهاب ما ينبغي له إلا السرعة، وأنا متأكد أنه بعد شهر سيصل إلى أوروبا ويصل إلى أمريكا الشهر اللي بعده، وأوصي إخواني وأصدقائي زعماء العالم بأن يباشروا مكافحة الإرهاب بكل سرعة"، لقد كان الهاجس الأكبر للمليك -يرحمه الله- تراب الوطن، ولعل من آخر الكلمات التي قالها في خطابه الأخير بمجلس الشورى: "لن نسمح بأي تهديد للوحدة الوطنية وليعلم من يرتهنون أنفسهم لجهات خارجية تنظيمات كانت أم دول، أنه لامكان لهم بيننا، وسيواجهون بكل حزم وقوة، كما نؤكد عزمنا على التصدي للإرهاب، ولن يهدأ لنا بال حتى نحصن بلادنا الغالية تجاه هذا الخطر"، رحم الله الملك عبدالله الذي كان مسكونًا بتراب الوطن وعشق مواطنيه.