الصمود فعل سلبي، ما لم يكن ضمن إستراتيجية تعد للدفاع النشط، ثم تتهيأ للهجوم، هكذا تقول خبرات التاريخ القريب والبعيد، وهكذا أرى -شخصيًا- الأمور، فلا يجوز أن تحتفل بقدرتك على إحباط خطط الخصم، ما لم تكن لديك خططك الخاصة، لتحقيق رؤيتك الإستراتيجية الخاصة، أما العمل وفق نظام القطعة أو بطريقة "على ما تفرج" فلا يقود إلى صناعة تغيير، أو تأثير، على المستوى الإستراتيجي، ولا يمكن بالطبع أن يحول مسارًا تاريخيًا أو حتى أن يعرقل هذا المسار. اقرأوا ما سبق مجددًا، وأنتم تمعنون النظر في المشهد الإقليمي التالي: قاذفات فانتوم إف 4 الإيرانية العتيقة، تقصف مواقع "داعش" في العراق، بينما تنقل شاشات التلفزة مشهدًا على الأراضي العراقية، يرقص فيه قاسم سليماني، قائد فيلق القدس أهم فيالق الحرس الثوري الإيراني، ممسكًا ببندقية، وسط بعض العراقيين احتفالًا بتحقيق انتصار في إحدى المعارك ضد داعش، فيما تقول الجارديان البريطانية: إن نفوذ سليماني في العراق كبير، إلى حد أن البغداديين يعتقدون أنه هو الذي يحكم العراق سرًا.!! أمريكا التي قالت: إنها لا تريد إيران ضمن التحالف الدولي لطرد داعش، هي من قال وزير خارجيتها جون كيري أمس الأول: إن الضربات الجوية الإيرانية ضد داعش "مفيدة"، وبينما نفت وزارة الدفاع الأمريكية، أن تكون قد أعطت ضوءًا أخضر لطهران تقصف بموجبه في أجواء العراق، مشيرة إلى أن الأمر يعود إلى السلطات العراقية، فإن سلطات بغداد تنفي هي الأخرى أن تكون قد علمت مسبقًا أو وافقت على الضربات الإيرانية في الأجواء العراقية، أي أن أمريكا التي بثت نبأ الغارات الجوية الإيرانية، لم تكن تعلم مسبقًا بها، تمامًا كما أن العراق الذي سقطت القذائف فوق أرضه واستبيحت أجوائه، لم يكن قد أعطى لطهران موافقته على الضربة الجوية الإيرانية ضد مواقع لداعش في العراق!!. على أية حال، فقد حصلت طهران على إقرار أمريكي بالتدخل الإيراني في أجواء العراق حيث يقود سلاح الجو الأمريكي تحالفًا يضم أكثر من أربعين دولة تعمل هي أيضًا في سماء العراق، وباتت إيران الدولة الوحيدة التي تملك قوات على الأرض العراقية ومقاتلات في سماء العراق، وبقوة الواقع أصبحت إيران طرفًا فعالًا في تحالف دولي، ناصب أكثر أطرافه طهران العداء على مدى أكثر من ثلاثين عامًا. طهران انتقلت إذن من مرحلة الصمود عقب ثورة الخميني، إلى مرحلة الهجوم، التي بدأت مقدماتها مع ولادة حزب الله اللبناني مطلع الثمانينيات، ومن قبله بتحالف تاريخي، مع حافظ الأسد استمر مع ابنه بشار على مدى أربعة وثلاثين عاما. هذا الانتقال الإيراني من الصمود إلى الهجوم، يعني أن لدى طهران مشروعًا إستراتيجيًا، وأن لديها جهاز حكم يدير هذا المشروع على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وأن تحولات الداخل، بتداول الحكم بين صقور وحمائم في بعض المراحل، لم يؤثر بالسلب على الخطط والأهداف الإستراتيجية لطهران، لكن اللافت أنها ذات الأهداف التي تبنتها إيران (الشاهنشاهية) قبل ثورة الخميني، وإن كانت عملية إنجازها قد تلبّست برداء الدين لتصبح إستراتيجية "الثورة الإسلامية" بدلًا من إستراتيجية إيران الشاهنشاهية، مع ملاحظة أن النطاق الإقليمي للأولى "الإسلامية" تتجاوز حدوده بكثير النطاق الإقليمي للثانية "الشاهنشاهية". لدينا الآن على الخارطة، عمليات "هجوم" إيرانية، ومشروعات صمود عربية، الأولى باتت تحظى بغطاء أمريكي، ربما يتصور أصحابه بإمكانية إجهاض حلم القنبلة النووية الإيرانية، بمقايضة طهران على الدور بديلًا للقنبلة، أي أن تصبح لطهران كلمة مسموعة في الشأن العراقي والسوري واللبناني واليمني والفلسطيني، وربما حتى في الشأن الخليجي، مقابل أن تتخلى عن مشروع امتلاك قنبلة نووية قطعت طهران أكثر من نصف الطريق إلى تحقيقه. ولدينا أيضًا على الخارطة مشروع "صمود" عربي، يعرف أصحابه ما الذي لا يريدونه، لكنهم لا يعرفون على وجه اليقين "ما الذي يريدونه؟!".. مشروع الصمود العربي، لا يريد أن يرى ظل طهران فوق أي أرض عربية، وهذا مفهوم، لكنه لا يخبر حتى جمهوره هو، بما يريده، ولهذا يبدو الاحتشاد العربي "عصيًّا" على التحقق، فالناس تحتشد خلف ما تعرفه، بنفس قوة احتشادها وربما أكثر ضد ما تكرهه، والناس في العالم العربي، يمكنهم -بالكاد- الاتفاق على ما يكرهون، أو على ما لا يرغبون فيه، لكنهم لن يتفقوا أبدًا على ما يريدون، قبل أن يمتلكوا معلومات دقيقة عنه وعن سبل تحقيقه. تبقى إذن مشكلة أن جمهورنا لا يمتلك خارطة، إما لأنه لا توجد خارطة أصلًا، وإما لأن بعض حكامه يُؤثرون حجبها عنه، والنتيجة في الحالين، أنه لا يمكن لأمة أن تنجح دون "مشروع مستقبلي" ولا يمكن لهذا المشروع أن يتحقق دون احتشاد شعبي حوله، ولا يمكن لهذا الاحتشاد أن يقوم، دون عملية تنوير وتبصير مستمرة، تؤمن بحق المواطن في المعرفة، بعد أن تسلم له أولًا، بكافة حقوق المواطنة بالطبع. تضييع الكتالوج أو المانيوال أو تغييب الخطة أو الخارطة عن الرأي العام العربي، فيما يواجه العرب معركة "وجود" سيقود حتمًا إلى استمرار الصراع أو الجدال داخل أوطان عربية مهمة، فيما ينشغل أصحاب المشروعات الإستراتيجية الحقيقية في الشرق الأوسط (إيران- تركيا- إسرائيل) بإنجاز خططهم فوق أرضنا، لا يعني سوى شيء واحد، هو أننا حين ننتهي من جدالنا الداخلي حول قضايا قتلت بحثًا وحسمها العالم قبل مئات السنين، لن نجد الأرض التي نقيم فوقها مشروعنا، بل إننا لن نجد لا المشروع ولا الفرصة ولا الوقت لإنجاز بعضه. أفيقوا.. عملية سحب البساط من تحت أقدام عرب الشرق الأوسط مستمرة، والخارطة التي أريدت لما يُسمَّى ب"الربيع العربي" أن يكون الشفرة السرية لها، ما يزال يجري رسمها بسيوف داعش وبطائرات طهران وببنادق سليماني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفي غيرها. أنجزوا خطط تهيئة الأوطان لمعارك الوجود بأسرع ما يمكن، فالزمن سيطوي بساط العروبة فوق أرض الشرق الأوسط، ما لم يتحرك العرب بالسرعة الواجبة، بعد امتلاك رؤية، ومشروع، يتجاوز حدود مجرد الصمود. [email protected]