كثيرًا ما يقرّر الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة من حياته، أو يُحدِث تغيرًا ضروريًا فيها يُعدّ نقطة تحوّل أو انطلاقة نحو الأفضل. لكنّه دومًا يقرن هذه الخطوة وتلك الانطلاقة بموعد مع الأقدار المجهولة. كبداية عام جديد، أو مناسبة ما، أو تحسّن في الأحوال المادية، أو قرب موسم معيّن. وكأنّه بهذا ينفي تهمة التسويف عن نفسه، ويزعم الترتيب والتنظيم والسير وفق خطة لها زمن ابتداء وانتهاء!!. وهو في الواقع بهذا التسويف يفعل كمن يظن أنّ الموعد المنتظر سيمدّه بقوة تنهضه من خموله، وتدفعه بحماسة أفضل. وكم تأمّلت أحوال كثيرين - وأنا منهم- عاشوا هذا الوهم، وسرق التسويف منهم أيامًا وراء أيام حينما جهلوا أو تجاهلوا أن تجدّد الحياة ينبع من داخل النفس، وأن صاحب العزيمة الحقيقية والإرادة الصادقة لا ينتظر الظروف ولا يخضع لتصرّفها بل يصنع ظروفه، ويكيّفها، ويتحدّاها ويرغمها على قبول مشيئته. إن حياة كثيرين حولنا معلّقة بأمنية يلدها الغيب وموعدها يتحكّم فيه التسويف!!. وكلّ تأخير لإنفاذ خطة، وكل إرجاء يعطّل خطوة لا يعني إلاّ تمديدًا للفترة الراهنة وإطالة للحالة الكابية التي يرغب في الخلاص منها. لا يمكن أن ينطلق المرء نحو الأمام وهو يقف مهزومًا عاجزًا أمام الإرجاء والتسويف والتفريط في وضع حدّ حازم حاسم للانطلاق نحو الأفضل. من الجميل أن يعيد المرء نظره في حياته، ويقرّر تنظيمها بين حين وآخر، وينتقد عيوبها وآفاتها. وأن يعترف أنه يحتاج فيها إلى تغيير. لكن البعض يقف عند هذا الحدّ ويتجّمد. وينتظر أن تهّب عليه رياح التغيير فتنقل حياته إلى جانب آخر يتمناه. إن الأمور لا تجري هكذا. والتجديد والتغيير يحتاج إلى حسم وإرادة وعزيمة تنفّذ وإصراره يحرّك. إن الناس في هذا الشأن أنواع وأصناف منهم من ينجح في إرسال نظرات ناقدة في جوانب حياته فيعترف بعيوبها وخللها، ويقرّ بحاجته إلى التغيير. لكنه يقف عند هذه المحطة، ولا ينطلق لغيرها، فوقت رحلته يظلّ معلّقا بالغد، أو الأسبوع القادم، أو السنة الجديدة!! ومنهم من يقرّر أن يعيد تنظيم حياته، وينطلق نحو آفاق جديدة، ويضع الخطط، ويرسم السياسات القصيرة المدى والطويلة المدى، ثم يقف بعد ذلك معتقدًا أن تلك الخطط ستتحقق وحدها. وأن القدر سيكتب لها ميلادًا دون مخاض!!. ومنهم من أدرك أن حياته تستحق الجهد والعناء وإعادة النظر فيما أصابها من غُنم أو غرم، وأن الأفضل لا يتحقّق بالإبطاء والانتظار وأنّ تحقيق النقلة والانطلاقة لا مكان معه لتريث وتأجيل (فإذا عزمت فتوكّل على الله إن الله يحب المتوكلين). ولست أعني بمقالي الانطلاقة الجديدة والصفحة الجديدة في شؤون الحياة والمستقبل والعمل فقط بل أعني أيضًا العلاقة مع الله، وإعادة الاتزان إلى الحياة وتجديدها. فالكنود القديم لا ينبغي أن يقف عائقًا أمام أوبة صادقة. كثيرون ينوون أن يلتزموا بأداء صلاتهم على صورة أفضل فيعقدون النية أنهم سيفعلون ذلك من الغد. وكثيرون ينوون توبة، فيقولون سأتوب وأهتم بعباداتي مع إطلالة رمضان مثلًا. إن السير إلى الله لا ينبغي أن تعرقله العراقيل، ولا تؤجّله المواعيد، ولا يخدّره التسويف بالإرادة الماضية إليه. ابحث عن جوانب القوّة والقصور في حياتك، عزّز الجانب القوي، وعالج جوانب القصور ولا تنس علاقتك بالله في هذا التجديد والتعديل، ولا تجعل التسويف يؤخّرك. [email protected]