ما زال الخروج الصباحي إلى المقهى ممكنًا، قبل أن يغيره الصيف إلى خروج مسائي. في هذا الصباح قال لي رفيق قارنًا نبرته اللائمة بنظرة أشد لومًا: أنت مدين لي ب700 جنيه ثمن مجلدات الجبرتي الخمسة التي اشتريتها بسببك، ثم اكتشفت أني لا أستطيع قراءتها، لغته غير مألوفة، وطريقة عرضه مشوشة.. قلت له: ملاحظاتك صحيحة، ولو استشرتني قبل الشراء لما نصحتك به، بإمكانك بيعها في سوق الكانتو إن كان السوق ما زال موجودا. "عجائب الآثار" ليس كتابًا بالشكل الحديث للكتاب، إنما مرجع للباحثين، أما الكتب فللقارئ العادي. لكنه للحق مرجع ميسر، قريب من لغة عصرنا، وليس ذنب الجبرتي أن ليس فيك طبيعة المثقف.. قال مستنكرًا: ولزومه إيه الغلط!.. هززت رأسي يأسًا من صعوبة التفاهم وأوضحت: المثقف ليس نقيض الجاهل، أنت متعلم وأستاذ في تخصصك، الثقافة حالة لا تكتسب ما لم تكن مهيأ لها بداءة، وهى ليست ميزة أو فضلا حتى ينتقص من غابت عنه، وطالما أنك لم تكنها فلا تحاول الآن في هذه السن المتأخرة وأنت تلعب في الوقت بدل الضائع.. ابتسم بسخرية وعلق: تريد أن توحي لي بأن سعادتك مثقف.. عدت إلى هز رأسي بضيق هذه المرة، ورددت: لا حول ولا قوة إلا بالله، صنفني كما تشاء. وإن شئت نصيحتي لا تتخلص من المجلدات، فلربما أصابت لعنة الثقافة واحدًا من أبنائك.. علق: الشر برة وبعيد.. ثم أردف وهو يغمز بعينيه مستفزًا: على فكرة، ما دمت تُقدِّر الجبرتي ألفت نظرك إلى أن له رأيًا سيئًا في صاحبك محمد علي باشا، لا يقل سوءًا عن رأيه في المماليك الذين عاصرهم قبله!.. ابتسمت مجيبًا: لو كتب الجبرتي الآن لا ندري ما سيقوله عنه، من يطلق حركة تغيير لا يقيم إلا بعد استيفاء الحركة مداها. وجدت فرصة لأخذ المبادرة منه في جدليات لفت النظر، فاتسعت ابتسامتي وأنا أغتنمها: ألم يلفت نظرك الصراحة المباشرة التي تحلى بها الجبرتي في عرض وجهات نظره، في زمن أكثر بادئية ووحشية من أن يحتمل وجهة نظر مخالفة.. بدا على رفيق أنه فوجئ بالملاحظة فسكت برهة متأملًا قبل أن يُعلِّق: عجيبة فعلا!.. فسّرت له ما بدا عجيبا: لا عجب، ذلك راجع إلى محدودية وسائل النشر، إلى درجة تستطيع افتراض أنها لم تكن موجودة، وأنه زمن سابق على نشوء إدارات إعلام. ثمة عامل آخر أكثر أهمية، أن الرأي وقتها لم يك مصدرًا لتهديد القادر على حجبه حتى يسعى إلى كبته، فحتى لو عرف يوسف بك، وهو من أمراء المماليك الذين زامنهم الجبرتي وكان له رأي سيئ عنه، حتى لو عرف رأي الجبرتي فيه لن يكلف نفسه عناء الاهتمام بما يقول، لا لأن يوسف بك يؤمن بحق الخلق في التعبير، إنما لأن الرأي لن يهدده في شيء، بينما هو مستعد لارتكاب أفظع الجرائم في سبيل التخلص من منافسيه وخصومه من مماليك آخرين ذوي قدرة على الإضرار بمصالحه.