يقف الكثيرون في حيرة بين الماضي والمستقبل لا يعرفون كيف يتعاملون مع ماضٍ رحل دون عودة، ومستقبل قادم مجهول الملامح.. وهناك من ينغمس في الماضي وفي رماله المتحرّكة التي كلّما تململ فيها ازداد غرقا وضيّع فرص الانطلاق نحو المستقبل، وهناك من يهرب من الماضي هروبه من وحش كاسر. ولنا اليوم وقفة مع ماضٍ رحل.. ومستقبل مقبل، متى نقف على الماضي وأطلاله، ومتى نعطيه ظهور إهمالنا ولا مبالاتنا. فقد كثر ما نقرأ ونسمع ونردّد من عبارات تدعو إلى ترك الماضي وعدم الانشغال به وتقليب أوراقه والنظر دومًا إلى المستقبل. وقد اشتدت الحملات المحاربة للماضي في السنوات الأخيرة وارتدت ثوب النداء إلى التطوّر والانطلاق نحو المستقبل، وإدعاء أن الماضي يسحبنا إلى الخلف ويؤخّر مسيرتنا نحو التقدّم، فاختلط عند كثير من الناس مفهوم الماضي وقيمته حتى صار البعض يشعر بالعداء الشديد تجاه الماضي لظنه أنه سيؤخّره ويعيق تقدّمه إن أطال النظر إليه أو رعاه بنظره، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، فالتعامل مع الماضي فن له أصول وقواعد ضيّعناها حينما لهثنا وراء دروس علماء العصر ونسينا أن نقف عليها في دروس رب الكون لنا في القرآن. فالله دعانا لعمارة الأرض والتقدّم والتطوّر كما أمرنا بأن نستعرض أحداث الماضي لننتفع بما فيها فما يعني الأولين يعني الآخرين، وخير لنا أن نحمل مما كان ما يسهم في علاج ما يكون. يقول عز وجل: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ). والبصر الذي ينفذ في أعماق الماضي ويستقرئ أنباءه ويقف على مواعظه ويتزوّد من حكم تجاربه هو بصر المؤمن الحصيف الفطن ففي القرآن قصص كثيرة خلّد الله فيها أحوال الأمم السابقة ومصائرها في صراعها مع الخير والشّر.. وأشار لنا لنستقي العبرة من نهايات الأتقياء والفجّار، ووضع كل ذلك من أيدينا لنتأمل ونتدبّر ونتعلّم. يقول جل شأنه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). وهنا تتجلّى لنا الحكمة من النظر في الماضي، فابتغاءً للعظة والعبرة يصحّ لنا أن نلتفت إلى الوراء، أما العودة إلى الماضي لنجدّد حزنا أو ننكأ جراحًا أو لنزرع (ليت ولعلّ).. فكّل ذلك لا جدوى منه ولا غاية ترجى، بل هذا ما يكرهه ديننا الذي يعلّق عيوننا دومًا بالمستقبل ويزجرنا عن الوقوف بأطلال الأمس باكين شاكين مولولين. لو كنا نملك القدرة على تغيير الماضي وتحوير أحداثه على ما نحب لكانت العودة إليه واجبه، أما وذلك مستحيل فإن الجهود لا بد أن تكرس لما هو آت، وألاّ نضيّع لحظة من أوقاتنا نردّد فيها (لو أن)، (ويا ليت كذا) وألاّ ننقم على الماضي.. فيه دروس لو تدبّرناها جيدًا لعفينا عنه وانطلقنا نحو المستقبل بزاد من التجربة والحكمة أكبر. [email protected]