سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نحو مشروع عربي (2- 2) استدعاء المصطلحات التي تغذي الخلافات والأحقاد الطائفية من ملفات التاريخ البعيد، سيؤدي حتمًا، إلى العبث بالنسيج الاجتماعي المتعدد الذي شكل ولا يزال، المكون السكاني للمنطقة العربية
تحدثت في مقال الأمس عن أسباب حالة الفراغ التي يعيشها الوطن العربي، وقلت بأن أول وأهم أسباب حالة الفراغ التي استدعت القوى الإقليمية والدولية لملئها، هي حالة التناحر الطائفي والمذهبي والعرقي والعشائري. في رأيي أن ما مهد الساحة لكل ما يحدث الآن، هو إصرار البعض، على العودة إلى القرون الهجرية الأولى، بغرض إعادة الحياة للمصطلحات التي أفرزتها الصراعات المذهبية في ذلك الوقت، والتي لم تكن بدورها أكثر من انعكاس لصراعات سياسية مريرة بقدر ما هي دموية. استدعاء هذه المصطلحات التي تغذي الكراهية من ملفات التاريخ، هو أمر في غاية الخطورة من حيث ما سيؤدي إليه من عبث بالهوية القومية، ومن تهديد للنسيج الثقافي، ومن تنكر للإرث الحضاري الذي ساهمت فيه وبشكل يميل إلى المساواة، جميع مكونات الأمة العربية. هذا من ناحية. من ناحية أخرى فإن استدعاء المصطلحات التي تغذي الخلافات والأحقاد الطائفية من ملفات التاريخ البعيد، سيؤدي حتمًا، إلى العبث بالنسيج الاجتماعي المتعدد الذي شكل ولا يزال، المكون السكاني للمنطقة العربية. في الوطن العربي ليس هناك بلد واحد قائم على الأحادية، النسيج الاجتماعي في بلادنا العربية قائم على التعددية سواءً فيما كان يتعلق بالأديان أو المذاهب أو الأعراق. وأية محاولة للعبث بحالة التعايش التي كانت تميز وحتى وقت قريب، العلاقة بين أبناء الطوائف المختلفة في الوطن العربي، سيكون عملاً أشبه بالسير فوق حقل من الألغام شديدة الانفجار. ولعل ما حدث في لبنان ما بين عامي 1975 و1990 من حرب أهلية لم يشهد العالم لها مثيلا طوال القرن الماضي، يوضح مدى الخطر الذي يتربص بالأمة من خلال هذا الطرح الصبياني والغرائزي. إن الخطر الحقيقي يكمن في اختلاط الديني بالسياسي عبر توظيف يتسم بالجنون إضافة إلى الدجل المختلط بالجهل، لمصطلحات تم إسقاطها على الواقع المعاصر من أرشيف تاريخ الصراع السياسي في القرون الهجرية الأولى. وهو صراع اصطبغ كما ذكرت آنفًا، بالصبغة المذهبية التي كانت تشكل الغطاء الشرعي لكل طامح في الوصول إلى السلطة، ولكل طامع في الحفاظ عليها. إن اللجوء إلى المصطلحات التاريخية التي أفرزتها مراحل الصراع المرير على السلطة، وما تبع ذلك من صراع مذهبي، بغية تفسير الواقع والتعاطي مع الأمور السياسية، هو قمة الفشل والغباء. وما لم ينتبه عقلاء العرب لذلك، فإن المنطقة ستكون مرشحة لإعادة إنتاج الحروب المذهبية التي راح ضحيتها الملايين إبان العصور الوسطى في أوروبا، حيث خاض كل من الكاثوليك والبروتستانت حروبًا عبثية لم تضع أوزارها، إلا بعد فك الارتباط بين المصطلح الديني بما يمثله من سلطة روحية وأخلاقية مستمدة من الغيبي واللانهائي، وبين المصطلح السياسي بما يمثله من واقعية ومرونة وعدم ثبات وتغليب للمصلحة العامة. لا حل بدون فك هذا الارتباط. إنها ليست دعوة لفك الارتباط بين ما هو ديني وما هو سياسي، إنها دعوة للتفريق بين ما هو ثابت وما هو متحوّل. [email protected]