فكرة الإناطة مبنية على أن: القلب هو الموجه للحركات الظاهرة، ففي الأحوال المعتادة: لا تصدر حركة إلا عن إرادة، ولا إرادة إلا عن عقيدة، أما غيرها فاستثناء له حكمه الخاص لا ينفي الأصل، وقد أشارت إليهما -وإلى تقرير أن مناط الكفر: الانشراح- الآية:(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)، وفيها جملتان لحالين تداخلتا بوساطة أداة الاستثناء "إلا"، والاستدراك "لكن"، فالاستثناء للمكره ألا يُحكم بكفره، والاستدراك لبيان أن المختار يشترط لكفره: "الانشراح". فلو انحلتا إلى جملتين منفصلتين بإزالة أداة الاستدراك، فالأولى في الفاعل للكفر الظاهر باختياره، بدليل استثناء "المكره" بعد ذلك، وصورتها: (من كفر بالله من بعد إيمانه)، (وشرح بالكفر صدرا)، (فعليهم غضب ولهم عذاب عظيم)، فهذه ثلاثة أمور مرتبطة: كفر الظاهر (كفر بالله)، وكفر الباطن (شرح بالكفر صدرا)، والعقوبة (غضب وعذاب).. وفق هذا الارتباط: فكفر الباطن (الانشراح)، شرط للعقوبة وليس كفر الظاهر وحده.. يؤكد هذا الجملة الثانية: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).. فهذه فيها أمران: كفر الظاهر (أكره)، وإيمان الباطن (مطمئن). هنا نرى أمرين أيضا: مخالفة الظاهر للباطن، والخلو من العقوبة وعلتهما: الإكراه، فاستفيد منه: إمكانية الكفر على الجوارح مع إيمان القلب، لكن ليست هذه بالحالة المعتادة بل استثناء؛ لذا لا عقوبة لأجل هذا العذر، وتلحق به في المعنى أعذار مشابهة ك: الجهل، والاشتباه، والجنون، فوجه تأكيد الجملة على الشرط: أنه لم يعتدّ بكفر الظاهر وحده، لإيقاع الكفر على المعين؛ للعذر (الإكراه) الكاشف عن سلامة الباطن من الانشراح، وبهذا فسر أهل اللغة والتفسير والصحابة الآية؛ قال بعض نحويي البصرة: "صار قوله: (فعليهم)، خبرا لقوله: (ولكن من شرح)، وقوله:(من كفر بالله)، فأخبرهم بخبر واحد، ف"من" في الموضعين لواحد لا اثنين، فالأول حال كفره ظاهرا، والثاني حال كفره باطنا. قال ابن جرير: "الرافع ل (من) من الأولى والثانية قوله: (فعليهم غضب من الله)، والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء، إذا استأنفت أحدهما على الآخر"، وقال ابن عباس: "فأما من أكره فتكلم به لسانه، وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم".. [تفسير ابن جرير] فتأمل: "عقدت.. إلخ" يؤيده سبب النزول في عمار لما أكره.. إن الكفر كفران: الباطن، والظاهر، فكفر الباطن يبتدئ منه ويسري إلى الظاهر، وهذا الكفر الاعتقادي (قول وعمل القلب)، وكفر الظاهر يبتدئ منه ويسري إلى الباطن، وهذا الكفر العملي (قول اللسان وعمل الجوارح) الذي ينكره المرجئة، هذا الحكم فيما ليس فيه عذر وهو الأصل، والذي فيه العذر -وهو الاستثناء- فباطن لا ظاهر له، وظاهر لا باطن له، فهذه أورثت إشكالا عند بعضهم، ولا ينحل إلا بهذه القسمة: أصل هو الحال المعتاد، واستثناء هو الحال غير المعتاد، وفي المحصلة: لا كفر يؤاخذ عليه إلا كفر الباطن، بدأ منه أو سرى إليه من الظاهر.