الشِّعر مرآة الوجدان، وصورة الفكر، وميدان التَّجربة، ومكمن العاطفة، وقلَّ أن نجد قصيدةً شعريَّةً تستحوذ على إعجابنا قد خلت من الخيال والعاطفة، والذي أجمع عليه النُّقَّاد أنَّ من أسباب خلود الشِّعر أن يحمل بين ثناياه العاطفة الجيَّاشة، التي تهزُّ مشاعر الآخرين، وتحيلهم من مجرَّد متلقِّين إلى مشاركين في الانفعال، متأثِّرين بالرُّؤية، مشدودين نحو الخيال، وبراعة اللُّغة الشَّاعرة، وقدرة الشَّاعر على إلباس رؤيته حُلَّةً قشيبة. لقد تصوَّر أبو الطَّيِّب المتنبِّي هذه الحياة، وأمعن النَّظر في معالمها وزخارفها، ومقاييسها، ومفاتنها التي تجذب الناس إليها فرآها صورةً واحدةً، تنطبق على كل عصر، وعلى كل أمَّة، بل وعلى كلِّ إنسان، فما طلبه الأوائل فيها وتمنَّوا تحقيقه طلبه المتأخرون أيضًا !! وما أمَّله السَّابقون فيها تطلَّع إليه اللاحقون !! فالأمنية واحدة، والهمُّ واحد فالأشخاص مختلفون، والمكان غير محدد، والزَّمان مختلف !! لكنَّ الأمر واحد، والأمنية واحدة، يقول: صَحبَ الناسُ قبْلنا ذا الزَّمانا وَعناهُمْ من شأنِهِ ما عنانَا وَتَولّوْا بِغصةٍ كلهُم مِنْ هُ وإن سَرَّ بَعضَهُم أحْيانَا رُبَّما تَحْسِنُ الصَّنيعَ ليالي هِ ولكنْ تُكَدّرُ الإحسانَا كَلَّما أنْبَتَ الزَّمانُ قَناةً رَكَّبَ المرْءُ في القناةِ سِنانَا هكذا تنطبق الصُّورة، ولكنَّه يرى أنَّ المرء في نهاية المطاف هو من يحيل الأشجار الخضراء والعيدان الغضَّة إلى سهامٍ تخترق الأجساد، ويقتتل بها البشر، وتفنى حياتهم بها، ما أجمله من تصوير !! لكنَّ أبا الطيِّب يصل إلى قناعة تامَّة، وإلى نتيجة مجرَّبةٍ حين قال : وَمُرَادُ النّفُوسِ أصْغَرُ من أنْ تَتَعَادَى فيهِ وَأنْ تَتَفَانَى كُلُّ ما لم يكُنْ من الصّعبِ في الأن فُسِ سَهْلٌ فيها إذا هوَ كانَا وهو نفسه الذي يقول : لَولَا المَشَقَّةُ سَاد النَّاسُ كُلُّهُمُ الجُودُ يُفْقِر، والإِقْدَامُ قَتَّالُ لقد تبارى كثير من الشُّعراء في إبراز تجاربهم في هذه الحياة، وربما لخَّص أحدهم تجربته خلال ثلاثين أو أربعين سنة في بيت واحد من الشِّعر، كما صنع هذا الشَّاعر في قوله: ومَنْ كَمُلَتْ فيه النُّهى لا يُسرُّه نَعِيمٌ، ولا يَرْتَاعُ للحَدَثَانِ ولا أرسخ من تجربة صلاح الدِّين الصَّفدي التي صاغها في مجموعة من القيم الجميلة التي هي عصارة فكره، وموئل حكمته، يقول: واستشعرِ الحِلمَ في كلِّ الأمورِ ولا تُسرع ببادرةٍ يومًا إلى رجلِ وإنْ بُليتَ بشخصٍ لاَ خَلاقَ لهُ فكُنْ كأنَّكَ لمْ تسمعْ ولمْ يَقُلِ ولا تُمارِ سَفِيهًا في مُحاورَةٍ ولا حليمًا لكيْ تنجو منَ الزَّلَلِ وإنْ أردتَ نَجاحًا أو بلوغَ مُنىً فاكتُمْ أمورَكَ عن حافٍ ومُنتعلِ إنَّ الفتى من بماضي الحَزْمِ مُتَّصفٌ وَمَا تعوّدَ نقصَ القولِ والعملِ إنها نظراتٌ في الحياة، وما تتطلَّبه من منظومة القيم التي دندن حولها شعراء الحكمة في قصائدهم و صبغوها بصبغة الرؤى الفاحصة الخبيرة .. وللحديث بقية إن شاء الله . * الجامعة الإسلامية – المدينة المنوَّرة Mh1111m@ : تويتر [email protected]