دارت على ألسنة الشُّعراء منذ العهود الأولى في التاريخ الأدبي قصائد لا تُنسى، وأبيات لا تموت بموت قائلها، بل تعيش قروناً بعده، يتناقلها النَّاس جيلاً بعد جيل، ويستشهدون بها على واقع حياتهم، وكأنها تحكي قصَّتهم، وتلخِّص واقعهم، وتعبِّر عمَّا يدور في خلدهم ويختبئ في وجدانهم، وذلك هو الشِّعر الخالد الذي يحمل عاطفة قويِّة، وتجربة شعريَّة صادقة، وخيالاً محلِّقاً في الآفاق، ورؤية تعانق القلوب قبل الأسماع، ولو سلَّطنا أنظارنا إلى جانب كبير من تراثنا الخالد لوجدانه يحمل تلك الملامح، ويجسد معالم القصيدة المفعمة بروح الشعر. والحقُّ أنَّ أدبنا يمتاز كما قرَّر ذلك كثير من الأدباء والنقاد بأنه قديم جداً وحديث جداً، قد اتصل قديمه بحديثه اتصالاً مستقيماً لا انقطاع فيه ولا التواء، فيه خصائص الآداب القديمة، وخصائص الآداب الحديثة، وهذا التَّواصل رفد أدبنا العربي بوافر من الملامح والسِّمات، وتعدُّد الأبعاد والدلالات ، وتنوُّع الموروث الأبي وتجدُّده في شتَّى أجناس الأدب . وفي تراثنا الشِّعري ما يكشف عن تركيز بعض القصائد على الحديث عن مجالات اصلاح النَّفس وتهذيبها، والسَّعي بها إلى طريق النَّجاح، والدَّعوة إلى الخير، والإيمان بعون الله ونصره وتأييده، ومن المعاني التي ارتبطت بهذا المعنى ما عبَّر عنه أبو الفتح البستي أحد شعراء القرن الرابع الهجري في أبياته المؤثِّرة التي يقول فيها: وثَقَتُ بربِّي وفَوَّضتُ أمري إليهِ ، وحَسْبِي بهِ مِنْ مُعِينِ وأَيْقَنْتُ أنَّ أمورَ العِبَادِ مُسَطَّرةٌ في كتابٍ مبينِ فَلَا تَبْتَئسْ بصُروفِ الزَّمَانِ ودَعْني فإنَّ يقيني يقيني وهو يدعو في أبيات أخرى إلى هذا المعنى ويركِّز عليه، حيث يوصي بالاعتصام بالخالق جلَّ وعلا، واللجوء إليه في كل الأحوال، يقول: واشْدُدْ يَدَيْكَ بحبلِ اللهِ معتصماً فإنَّه الرُّكنُ إِنْ خَانَتْكَ أركانُ من اسْتَعَانَ بِغير الله في طَلَبٍ فإِنَّ ناصِرَهُ عَجْزٌ وخُذْلَانُ ويشغل شعر الحكمة حيِّزاً كبيراً في شعر أبي الفتح البستي، إذ كان مُغرماً بهذا اللَّون ميَّالاً إليه، وهو يفصح عن هذه الحقيقة، ويصف نفسه بذلك، فيقول: صَادِقُ الوَعْدِ الوعيدِ جميعاً ولسانُ "الحكيم" غيرُ كَذُوبِ ويقول في أبيات أخرى موصياً بالصبر الجميل في كل الأحوال ورجاء الفرج من الكريم المنان: إذا ضَاقَ أمرٌ فارْجُ رَبِّك، إنَّه قديرٌ على تَيْسِير كُلِّ عَسِيرِ فبَيْنَ تَرَقِّي جَوْزَةٍ وانحدارِها فَكَاكُ أسيرٍ، وانْجِبَارُ كسيرِ ويلحُّ الشاعر على هذا المعنى ويبرزه في صورة تعبيريَّةٍ أخرى تفصح عن اهتمامه به فيقول: لا تَيْأسَنَّ لِعُسْرَةٍ فَوَرَاءهَا يُسْرانِ، وَعْداً ليس فيه خِلَافُ كَمْ عُسْرَةٍ قَلِقَ الفتى لِنُزُولِها لله في إعْسَارِها أَلْطَافُ هكذا خاض شاعرنا البستي غمار هذا الفن ومال إليه في أشعاره.. وللحديث بقية إن شاء الله. * الجامعة الإسلامية – المدينة المنوَّرة h1111m@ : تويتر [email protected]