يجب اتخاذ الحذر في التعامل مع الدول ذات الموروث الحضاري الضخم، فهكذا دول يصعب إخضاعها أو كسر إرادة شعبها حتى في حالة تعرضها للهزيمة، بسبب قدرتها على توظيف ميراثها الحضاري وشعورها بالعزة الوطنية وإصرارها على استنهاض همتها من أجل استعادة دورها الحضاري. تقدم الصين نموذجًا جيدًا لهذا النوع من الدول التي تعد على الأصابع. وربما أنها تشكل نموذجًا مختلفًا بحكم خصائصها الديمغرافية والإستراتيجية والثقافية ونظام حكمها الذي ظل يرتكز عبر 5 آلاف عام على المركزية بما أكسبها هذا الطابع الاستثنائي، وأضفى عليها تلك الخصوصية، ورشحها - في ذات الوقت - للعب دور كبير في إعادة صياغة نظام عالمي جديد آخذ في التبلور الآن، أهم خصائصه أنه قد لا يخضع لهيمنة الغرب لأول مرة في الزمن المعاصر. وعلى الرغم من صدور العديد من الكتب خلال السنوات القليلة الماضية التي تناولت ظاهرة صعود الصين، إلا أن غالبيتها افتقر إلى الدقة في شرح وتفسير تلك الظاهرة. لكن الكتاب الذي نحن بصدده الآن يعتبر في نظر العديد من نقاده استثناءً كونه يقدم الغذاء المناسب للعقول المتفتحة القادرة على هضم هذا الغذاء واستيعاب مضامينه. أهمية خاصة الكتاب الذي نستعرضه هنا : «عندما تحكم الصين - نهاية العالم الغربي ومولد نظام عالمي جديد» هو من تأليف الصحفي البريطاني مارتن جاك. وقد صدرت طبعته الأولى عام 2009، وصدرت طبعته الثانية نهاية العام الماضي (2012)، حيث زادت عدد صفحاته إلى الضعف تقريبًا لتستوعب التطورات المتسارعة التي شهدتها الصين على مدى الثلاث سنوات الماضية. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه الكتاب الأول في هذا الموضوع الذي يحمل تصورًا شاملاً وشرحًا وافيًا للتداعيات التي سيسببها صعود الصين المتزايد على الساحة الدولية، وما سينجم عن ذلك من إعادة تركيب هيكل السلطة العالمية. ويتوقع المؤلف أنه يمكن في ظل هذه التحولات أن تتحول اهتمامات العالم الغربي من مانهاتن وباريس إلى مدن أخرى مثل بكين وشنغهاي. الكتاب كما وصف من قبل العديد من النقاد والمراجعين يتسم بالواقعية وبقدرة مؤلفه وبراعته في التحليل والتخيل والتنبؤ، وذلك في إطار من الواقعية التي تدحض التفكير والافتراضات التقليدية حول صعود الصين، لاسيما وأنه يعتبر شاهد عيان على التحولات التي شهدتها الصين خلال العقود الثلاثة الماضية من خلال زيارته العديدة لها وعمله كأستاذ زائر في العديد من جامعاتها. ويعتبرالكتاب في طبعته الجديدة من أكثر الكتب مبيعًا في الولاياتالمتحدة، وقد بيع منه ربع مليون نسخة في طبعته الأولى، وترجم إلى 11 لغة. والمتوقع أن يحقق في طبعته الثانية تلك نجاحًا أكبر لجهة أن تطور الظاهرة الصينية خلال السنوات الثلاث الماضية منذ ظهور طبعته الأولى تتوافق مع توقعات جاك. وينقسم الكتاب إلى قسمين أحدهما - القسم الأول - صغير يحمل العنوان : «نهاية العالم الغربي»، فيما يشكل القسم الثاني بعنوان :»عصر الصين» الجزء الأكبر من الكتاب. الصين: تجربة متفردة تمتلك الصين الكثير من المقومات التي تساعدها على أن تصبح دولة مؤهلة لوراثة الإمبراطورية الأمريكية، بما تمتلكه من تراث ثقافي ضخم، ولأن تعداد سكانها يفوق المليار نسمة، وأيضًا لأن لديها القدرة على مقاومة العولمة بمفهومها الغربي، إلى جانب أنها تعد الآن مركز الاقتصاد في شرق آسيا والمنافس الأكبر للاقتصاد الأمريكي. وبالطبع فإن لهذه الخصوصية انعكاساتها القوية على بقية دول العالم، وعلى الأخص الولاياتالمتحدةالأمريكية. والحقيقة الماثلة الآن أنه بينما يزداد صعود الاقتصاد الصيني، فإن الاقتصاد الأمريكي يزداد انخفاضًا بعدما أوشكت الأزمة المالية الأمريكية تتحول إلى حالة مزمنة. ويرى المؤلف أن التراجع الأمريكي يرجع في الأساس إلى تورط أمريكا في العديد من التدخلات العسكرية عبر العالم وهو ما أدى إلى تفاقم وضعها الاقتصادي، في الوقت الذي تحجم فيه الصين عن التورط في أي حروب لا في منطقتها ولا في العالم. وهو ما يدفعه إلى الاستنتاج بأن الأزمة المالية الأمريكية عجلت في تحول ميزان القوة بين البلدين لصالح الصين التي تمتلك أكبر احتياطي نقدي في العالم. ويرى جاك أن ثمة رأيين في الغرب حول الظاهرة الصينية، أحدهما يرفض جملة وتفصيلاً مجرد فكرة أن تصبح الصين القوة التي تهيمن على العالم فيما أن أنصار الرأي الآخر، الذين يتزايدون بشكل مطرد خاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فيرون أن صعود الصين يمكن أن يشكل تهديدًا كبيرًا على النظام الدولي الذي يسيطر عليه الغرب. لكن الحقيقة المفزعة التي يخشاها الجانبان تتمثل في أن الصناعة الصينية التي تعتبر الأكبر في التاريخ والتي أشاد بها الغرب نفسه، أمكن تحقيقها ذاتيًا، وأن النجاح الصيني الذي تحقق على نطاق واسع أمكن تحقيقه بمعزل عن مشورة الغرب. رهانات خاسرة يرى جاك أن الكثير من الدلائل تشير إلى أن ظاهرة صعود الصين ستستمر بالرغم من اختلافها عن نموذج الصعود الغربي الذي بدأ مع الثورة الصناعية، وهو يعتقد أن الشعور القوي بالسيادة الوطنية المتجذر في تاريخ الصين العريق آخذ بالظهور مجددًا على سطح صين القرن الواحد والعشرين وفي عملية تقوية وتوحيد البلاد لا سيما في ظل مجتمع تسوده القيم الحضارية ولا يعاني من العنصرية. ويدلل على ذلك بأن توقعات الغرب حول تعثر مسيرة النمو في الصين باءت بالفشل حتى الآن، ويضرب مثالاً على ذلك من واقع حساباته هو عندما كان شاهدًا على أحداث تيان آن مين عام 1989(ميدان السلام السماوي)، فقد كان يتوقع أن تكون تلك الأحداث الدموية نهاية للتجربة الصينية في غضون بضع سنوات قليلة، لكنه فوجئ كالكثيرين، بأنها البداية للنمو الصيني العظيم الذي احتفظ لسنوات عديدة بنسبة 8% فأكثر . كما اعتقد المؤلف، ومعه الكثير من المراقبين، أن الانطلاقة الاقتصادية الصينية العملاقة التي بدأت مع بداية التسعينيات ستجعل الصين دولة أكثر ديمقراطية، لكن ذلك لم يحدث أيضًا بما أوجد معادلة جديدة ثبتت صحتها في الصين فقط: (الانفتاح : نعم – الديمقراطية :لا) . ويتابع المؤلف أن الغرب ظل دائمًا حبيسًا لافتراضاته الخاصة به. وفي حالة الصين، ظل يعتقد أن التقدم الذي تسعى الصين إلى بلوغه لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التغريب مع الافتراض أن الغرب يحتل قمة التطور البشري. ويعتبر المؤلف أن النمو الاقتصادي ظل يشكل الهاجس الأكبر لزعماء الصين منذ وفاة ماو، تحديدًا بعد تسلم دينج شياو بينج (ماو رقم -2) لمقاليد السلطة، بسياسته البراجماتية ووضعه الجيش في المقعد الخلفي، حيث يذكر له تنظيره العبقري: «لا يهمني أن يكون لون القط أسود أو أبيض كي أحكم عليه بأنه قط جيد، فهذا القط يظل جيدًا في نظري طالما أنه ظل قادرًا على اصطياد الفئران». وهو ما يعني أن الأساس أن يكون المرء منتجًا في الحياة بصرف النظر عن كونه شيوعيًا أو رأسماليًا.