في القرون الماضية كانت الدول والإمبراطوريات في العالم تتنافس فيما بينها على مقومات القوة والتأثير مثل الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها وعدد السكان وحجم الجيوش وعلى هذا الأساس توسعت الإمبراطورية البريطانية والفرنسية ونشأت الإمبراطورية السوفياتية والأمريكية وحاول هتلر بناء إمبراطورية ألمانية وانتشرت إمبراطورية اليابان في شرق آسيا وجنوبها. في عصرنا الحديث برزت على الساحة دول صغيرة ولكنها تتميز بمكانة دولية تفوق بكثير ما لديها من إمكانيات بشرية وجغرافية وعسكرية مثل سنغافورة وسويسرا وغيرهما.. فما الذي استجد من العوامل الذي أدى إلى تقلص تأثير حجم الدولة في العالم حتى أصبح اقتصاد روسيا بملايينها المائة وخمسين من البشر ومساحتها التي تفوق مساحة القارة الأوروبية عدة أضعاف لا يتجاوز حجم اقتصاد دولة متوسطة الحجم في أوروبا مثل هولندا؟ أول هذه العوامل هو أن العالم قد أصبح سوقاً تجارية واحدة مما أعطى الفرصة للدول المنفتحة تجارياً واقتصادياً لكي تستفيد من فرص التجارة الدولية فعلى سبيل المثال نجد أن سنغافورة تتفوق في حجم تجارتها على دول أكبر منها بكثير مثل الهند والبرازيل وأندونيسيا. العامل الثاني هو مدى التحول الذي طرأ في الفكر الإداري للشركات التي أصبحت لا تتقيد بالتعريف التجاري الضيق لمجال عملها، ولعل أوضح مقارنة تذكر في هذا المجال هي بين شركتي الخطوط السعودية والقطرية، حيث ترهلت الأولى بحكم تعريفها لنشاطها بإطار ضيق وهو النقل الجوي داخل المملكة ومنها وإليها في حين نظرت الخطوط القطرية إلى عالم بلا حدود فجعلت منه مجالاً رحباً ومفتوحاً لها. العامل الثالث هو التعليم، فبدون قاعدة تعليمية صلبة لن تتمكن أي دولة من تحقيق انجاز يذكر في أي مجال، ولذلك لم يكن مستغرباً أن تكون الدول التي حققت أعلى معدلات النمو الاقتصادي في الثلاثين عاماً الماضية هي الدول التي تفوقت في تعليم أبنائها وبناتها مثل كوريا الجنوبية التي كانت تتلقى المساعدات والهبات قبل جيل واحد فقط وأصبحت اليوم قوة اقتصادية وعلمية مرموقة في العالم. العامل الرابع هو التخصص والإتقان حيث نجد أن بعض الدول قد تمكنت من التركيز في صناعة معينة حتى حظيت بمكانة مرموقة فيها مثل شركة نستلة السويسرية أو نوكيا الفنلندية. لم تعد القدرة على التأثير في العالم اليوم محصورة بحجم الجيوش أو كبر المساحة أو عظم عدد السكان، بل أصبحت مقرونة بالفكر والإبداع والتميز والثقافة والإعلام والتواصل والانفتاح والنشاط الدبلوماسي والرقي الأخلاقي والمعنوي. [email protected]