ربما أن الكثيرين لاحظوا أن الإدارة الأمريكية لم تعد تولي اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط كما كان الحال في عهد الإدارات السابقة، أو حتى كما كان الحال في بداية ولاية الرئيس أوباما، الذي اختتم فترة ولايته الأولى بزيارة لأربع دول آسيوية جنوبي بحر الصين. وفيما سحبت واشنطن قواتها من العراق، وأصبحت تتأهب لسحبها من أفغانستان، فإن كل المؤشرات أصبحت تؤكد على أن صانع القرار الأمريكي قرر الاقتراب من الصين أكثر بعد أن أصبح ميزان القوى العسكرية والاقتصادية ينتقل بشكل متسارع من الغرب إلى الشرق تحديدًا في اتجاه الصين، وهو ما جذب اهتمام العديد من الخبراء والباحثين في السياسة الخارجية الأمريكية أمثال الباحث الأمريكي ستيفن وولت أستاذ الشؤون الدولية في جامعة هارفارد الذي كتب أكثر من مقال في ديسمبر 2012 في مجلة «فورين أفيرز» يدور حول هذا الموضوع. يرى وولت أن التنافس الذي تشتد حدته بين الصين وبعض جيرانها من جهة وبينها وبين الولاياتالمتحدة من جهة أخرى، لابد وأن يلقي بظلاله على العلاقات الأمريكية - الصينية وعلى أمن واستقرار منطقة شرق آسيا، وأن يضع العديد من العقبات أمام كل من واشنطنوبكين من أبرزها أن حلفاء واشنطن في المنطقة سيحاول كل منها التنصل من العبء الملقى على عاتقه ويعمل على ترحيله إلى الشركاء الآخرين، وهو ما يمكن أن تستغله بكين في إحداث الخلافات بين أولئك الحلفاء بين بعضهم البعض بتطبيقها سياسة «فرق تسد»، كما أن الصين رغم وجودها كقوة كبرى، فإنها ستواجه مشاكل في التلويح بقوتها ضد الكثير من الدول المجاورة لها لأنها ستتمكن من فعل ذلك بواسطة استعراضها لقدراتها العسكرية البحرية والجوية والبرمائية وليس عن طريق القوة البرية وحدها، كما أن الصين وهي تحاول تحقيق الهيمنة الإقليمية تحتاج إلى أن يكون لديها قوة كبرى حليفة مستعدة لدعمها من أجل تحقيق أهدافها في تحقيق تلك الهيمنة. كما أن واشنطن قد تجد صعوبة بالغة في تحديد حجم الدعم الذي يمكن أن تقدمه لحلفائها الآسيويين، ويقدم وولت المثال على كيفية التغلب على هذا النوع من العقبات بالسياسة التي انتهجتها بريطانيا عندما بدأ نجم ألمانيا في الصعود في القارة الأوروبية. ويقول بهذا الصدد إن التهديد الواضح والمتزايد من قبل ألمانيا دفع بريطانيا إلى حل خلافاتها مع الدول الأخرى -خاصة فرنسا وروسيا- وتقوية علاقاتها مع الدول الكبرى بشكل عام بما في ذلك الولاياتالمتحدة التي قدمت لها بريطانيا الدعم خلال الحرب الإسبانية- الأمريكية، وهو ما وضع أسس التحالف الذي بدأ يتبلور منذ ذلك الحين والذي أدى إلى هزيمة ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولذا فإن وولت يصل إلى النتيجة بأنه إذا كنت مفكرًا استراتيجيًا حاذقًا يابانيا أو كوريا، وتعتقد أن الصين تشكل التحدي الأمني الأخطر لك على المدى الطويل، فإنه لابد من أن تسعى لرأب الصدع مع الدول الأخرى، وهو ما سيتيح لك، ليس فقط زيادة الاهتمام والتركيز على الصين، وإنما أيضًا سيزيد من احتمالات مواجهة الصين لمعارضة خارجية قوية ومتماسكة إذا ما حاولت زيادة ثقلها في العالم في المستقبل، وهو ما يمكن أن يؤثر على حسابات بكين، ويؤدي إلى استقرار شرق آسيا الذي يتطلب أيضًا تليين عملية التوازن المنشود لأنه الوسيلة الأمثل لضمان ألا يتعثر العم سام في حمله للقدر الأكبر من الأعباء. مهمة الصين أصعب يعتقد وولت أن أمن كوريا (الجنوبية) واليابان يشكلان أهمية خاصة في أولويات المصالح الأمريكية، وأن واشنطن لا تقيم تحالفاتها مع هاتين الدولتين لحماية أمنهما، ولكن لأن أمنهما يدخل في صلب المصلحة الأمريكية، وهو يتساءل بهذا الصدد: لنا أن نتصور ماذا يمكن أن يحدث للولايات المتحدة والاقتصاد العالمي إذا ما تعرضت منطقة شمال شرق آسيا لعدم الاستقرار؟. يرى وولت أيضًا، وهو يقارن بين وضع أمريكا الآن كقوة مهيمنة على العالم، بعد أن تحققت لها الهيمنة الإقليمية، وسعي الصين لمنافستها على القمة، أن أمريكا لم تواجه الصعوبات والعقبات التي تواجهها الصين الآن في محاولاتها الصعود إلى القمة بدءًا من الهيمنة على جيرانها (الجنوبيين)، فالولاياتالمتحدة سارت نحو تحقيق هدفها عبر طريق ممهد نظرا لعدم وجود قوى رئيسية أخرى في نصف الكرة الغربي تقف عقبة أمام التوسع الأمريكي في القارة، وليست تلك الحالة نفسها بالنسبة لبكين، فوجود دول قوية بجوار الصين يطرح السؤال عما إذا كان في مقدور تلك الدول أن تشكل ثقلا موازنا للصين، أم إنها ستختار الانضمام إليها؟ ولا يخفي وولت قلقه من الاحتمال الثاني، أي إمكانية احتواء الصين لتلك الدول، ويضرب المثال على ذلك إقبال سكان جاوا الإندونيسية على تعلم لغة ماندرين الصينية، بالرغم من الدور الذي لعبته بكين في انقلاب 1965. أساليب ذكية يرى ستيفن وولت أنه يتوجب على أمريكا أن تدفع الصين نحو المزيد من المشاركة في الشؤون الدولية، ويلاحظ أن هنالك توجها في واشنطن نحو إفساح المجال لقوة الصين الصاعدة، وأن بكين عليها أن تضطلع بمزيد من المسؤولية في هذا المجال، بحيث يمكن تقاسم السلطة بينهما، وهو تصور ترفضه النخبة الأمريكية «لكن عليها أن تتقبله». ويستطرد أنه من أفراد النخبة التي تتوق إلى أن ترى الصين تتحمل المزيد من الأعباء، لكن بدلًا من تركيز الجهد في مواجهة مباشرة مع الصين، توجد استراتيجية أكثر ذكاءً تتمثل في تحميل الصين المزيد من الأعباء، كأن تنخرط في محاولة تثبيت أفغانسنان، أو تشجيعها على الانخراط في مرحلة ما بعد الأسد في سوريا، أو أن تظهر همتها الدبلوماسية عن طريق التعامل مع القراصنة الصوماليين، وتجارة المخدرات العالمية، والأزمات المتكررة في السودان، ودون غنى عن ذكر كوريا الشمالية. ويستطرد وولت إن ذلك لا يعني أن تقوم واشنطن بدعم الصين للحصول على مزيد من النفوذ في مناطق تشكل أهمية استراتيجية لواشنطن، بالرغم من الحقيقة أنه ليس في وسع واشنطن منع الصين من الحصول على هذا النفوذ مع تنامي قوتها، بقدر ما يعني أن القوى العظمى الذكية تقوم بنقل المسؤولية للآخرين (وليس الحلفاء فقط)، للتفرغ لمناورة الخصوم المحتملين بدلًا من تحمل أعباء مكلفة بالقليل من الفوائد.ويتابع أن الولاياتالمتحدة استثمرت بشكل كبير في حماية وإعادة بناء المناطق الصناعية في أوروبا واليابان خلال الحرب الباردة، وإقامة علاقات وثيقة مع عدد من منتجي النفط الكبار في الخليج، لكنها أخطأت من خلال تبديد الموارد في العديد من النزاعات الصغيرة في العالم النامي. يخلص وولت في النهاية إلى أن الدرس الماثل اليوم يبدو واضحًا للغاية: تعتمد نتيجة مستقبل التنافس الأمريكي - الصيني جزئيًا على أي من الدولتين سيدير اقتصاده بشكل أفضل، وأي منهما يمكنه الحصول على دعم مفيد من الدول الأخرى المهمة، وعلى نوع الحليف الذي يساند كل منهما، حيث يبدو من الواضح أن الحليف الذي يعاني من مشكلات وأزمات يضر أكثر مما ينفع، وأن الفوز في هذا التنافس يتطلب القدرة على توريط الخصم في أعباء مكلفة، وهو نفس ما اتبعه الرئيس الامريكي الراحل رونالد ريجان لاسقاط الاتحاد السوفييتي السابق باستدراجه الى سباق تسلح في الفضاء الخارجي باهظ التكاليف، لم تتحمله الخزينة السوفيتية، ولا وجدت من جماهير الحزب الشيوعي آنذاك من هو على استعداد لربط الاحزمة من اجل خوض سباق تسلح مع واشنطن في الفضاء.