لا أعرف كيف قفزت أمامي كلمة كنت أسمعها زمان، وهي كلمة "حونشي"، التي لم أعد أسمعها كثيرًا، ربما لأني لم أعد أنزل إلى الحارة كما كان الحال أيام زمان.. أو لأن الحارة تغيَّرت.. فأصبحت شوارع تخترقها وميادين تحل مكانها فانتهت الحارة التي كُنَّا نعرفها أيام زمان. وانتهى معها بالتالي لفظ "حونشي" و"حونشية"، وربما حلَّ محلها كلمات وألفاظ أخرى تُعبر عن "حونشية" اليوم.. لا أدري؟! ***** والحونش أو الحونشية، أو الحوشية، هي تسمية أطلقت في الحجاز على مجموعة من الوافدين للحج المتخلفين عن السفر إلى بلادهم في عهد الخلافة العثمانية. وقد كان الحونشية يقيمون داخل أحواش (أسوار) في جنوب مدينة جدة بقرب الميناء لحين قدوم السفن لترحيلهم إلى بلادهم، ثم عُرفوا في بداية الحكم السعودي بالحونش، والحونشية وأُطلق عليهم اسم حونشية لأنهم يتحوشون داخل الأحواش كمجموعات متخلفين، ويمارسون أعمالاً خارجة أقرب إلى البلطجة. ***** ورغم أن ظاهرة البلطجة ليست جديدة على الدول العربية، كما أنها ليست مرتبطة بالثورات التي نجحت في إسقاط النظم، فقد صاحب حالة الثورة، التي شهدتها المنطقة العربية، تزايد انتشار ظاهرة البلطجة حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من سياسات الشارع العربي. وعرفنا مسميات جديدة مثل "الشبيحة" في سوريا، و"البلطجية" في مصر، و"الزعران" في الأردن، و"المرتزقة" في ليبيا.. ارتبطت بالتصرفات التي ترتكبها تلك الفئات الخارجة عن القانون والنظام في تلك الدول بقصد إشاعة الفوضى والذعر بين الثوار، وفرض الرأي بالقوة والسيطرة على الآخرين، وإرهابهم والتنكيل بهم. ولا ننسى أيضًا مصطلح "اللهو الخفي" الذي يضع عليه مختلف الأطراف السياسية المتنافسة في مصر أسباب عدم الاستقرار، بينما يضعه آخرون على "الفلول" ويقصدون بهم أنصار نظام مبارك والحزب الوطني المنحل الذين يريدون إفساد التجربة الثورية، والعودة إلى السلطة مُجددًا. ***** وأخيرًا.. إن استمرار أوضاع عدم الاستقرار والاضطراب المجتمعي في مصر وغيرها من الدول العربية، التي تمر بمراحل مشابهة، كما تؤكد مجلة السياسة الدولية، سيسهم في استمرار هذه الظاهرة وتوسعها، على نحو قد يُهدِّد الأمن القومي للدولة، وربما الوجود المادي للدولة ذاتها. وقد تتطور جماعات البلطجة في المستقبل من كونها جماعة من المجرمين والمسجلين خطر إلى جماعات وأمراء حروب Warlords، أو إلى عصابات جريمة منظمة Organized Crime Gangs، لديهم من القدرات والإمكانيات التسليحية ما قد يؤهلهم لمواجهة الدولة، وربما لهزيمتها. وهذا التطور قد ينقل الصراع بين البلطجية والدولة إلى مستوى أكثر تعقيدًا. فهذه الجماعات لم تعد تسعى إلى فرض سطوتها على الشارع فقط، وإنما على الدولة ذاتها. كما قد يتحول البلطجية إلى فاعل رئيسي في المجتمع، وفي العملية السياسية، بصورة قد تصل معها لأن يكونوا خصمًا للدولة ذاتها. * نافذة صغيرة: (إن المجتمعات يا سادة لا تتقدم بالفوضى أو التناحر بين فئات المجتمع المتعددة بل تقوم بالعمل الجاد والمحافظة على القواعد والمبادئ التي انتفض المجتمع في ثورته لتحقيقها والتضحية بالمصالح الخاصة والمجتمعية المتعددة في سبيل إعلاء شأن الوطن ومصالحه).. السفير/ صلاح الدين إبراهيم. [email protected] [email protected]