هناك أبيات شعريَّة دارت على ألسنة النَّاس منذ عهود فحفظوها وإن لم يعرفوا قائلها ؛ لأنَّها تتضمَّن معنى حكيماً أو رؤية فاحصة خبيرة، إذا من مقاييس سهولة حفظ الشِّعر التي أشار إليها النُّقَّاد أن يتضمَّن البيت الشِّعري معنىً حكيماً، إذ يُمثِّل رؤيةً جديدةً في نظر المتلقِّي، ويفتح آفاقاً جديدة لديه، ويستلُّ شيئاً من الرُّؤى الجامدة التي تتوارى أمام رؤية الشِّعر. وفي ديوان الإمام الشَّافعي - رحمه الله- جانب من ذلك، فقد توافر له من سعة العلم، وحدَّة الذَّكاء، والثَّقافة الواسعة، وحبِّه للنصيحة ما أهَّله أن يكون من كبار الحكماء في التَّاريخ، وما جعل شعره يفيض بالحكمة الخالدة، ويفصح عن الرُّؤية الثَّاقبة. يقول رحمه الله عن سهام الليل التي تسري تحلِّق في الآفاق، فتحقَّق ما ناجت به النَّفس خالقها -عز وجل- : أَتَهْزَأُ بالدُّعَاء وتَزْدرِيهِ ومَا تَدْري بما صَنَعَ الدُّعَاءُ سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي، وَلَكِنْ لها أمدٌ، وللأمدِ انقضاءُ ومن الآداب التي يحسن الالتزام بها في الحوار مع الآخرين الصَّمت إذا كان المنطق في غير حينه، يقول : لا خَيْرَ فِي حَشْوِ الكَلَامِ إِذَا اهْتَدَيْتَ إِلَى عُيُونِه والصَّمت أجمل بالفتى مِنْ مَنْطقٍ في غَيْرِ حِينِه وعَلَى الفَتَى لِطِبَاعِهِ سِمَةٌ تَلُوُحُ عَلَى جَبِينِه مَنْ ذَا الَّذي يَخْفَى عَلَيْ كَ إذَا نَظَرْتَ إلى قَرِينِه ويعرِّج الشَّافعي في ديوانه على شرار النَّاس وسفهائهم، إذ هم أشَرُّ من الكلاب التي لا تكفَّ عن النُّباح، حيث يصوِّر نظرته لهم، فيقول: لَيْتَ الْكِلابَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً وَلَيْتَنَا لا نَرَى مِمَّا نَرَى أَحَدًا إِنَّ الْكِلابَ لَتَهْدَأُ فِي مَوَاطِنِهَا وَالخَلْقُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدًا فَاهْرَبْ بِنَفْسِكَ وَاسْتَأْنِسْ بِوَحْدَتِهَا تَبْقَ سَعِيدًا إِذَا مَا كُنْتَ مُنْفَرِدًا ويُمعن في تصويره لتلك الفئة من البشر، التي لا تكفُّ عن الإساءة، بل إنَّه ليسؤها أن تراه فرحاً، ويسعدها أن تراه حزيناً، يقول: إِنّي صَحِبتُ النَّاسَ ما لَهُمْ عَدَدُ وَكُنتُ أَحسَبُ أَنَّي قَد مَلَأتُ يَدي لَمّا بَلَوتُ أَخِلاّئي وَجَدتُهُمُ كَالدَهرِ في الغَدرِ لَم يُبقوا عَلى أَحَدِ إِن غِبتُ عَنهُم فَشَرُّ الناسِ يَشتُمُني وَإِن مَرِضتُ فَخَيرُ الناسِ لَم يَعُدِ وَإِن رَأَوني بِخَيرٍ ساءَهُم فَرَحي وَإِن رَأَوني بِشَرٍّ سَرَّهُم نَكَدي حدَّث أبو إبراهيم بن يحي المُزني، قال: دخلت على الشَّافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت : كيف أصبحتَ اليوم؟ قال: أصبحت من الدُّنيا راحلاً, وللإخوان مفارقاً, ولكأس المنيَّة شارباً, وعلى الله جلَّ وعلا ذكره وارداً , ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأُهنّيها، أم إلى النار فأُعزيها، ثم أنشأ يقول: إِلَيْكَ إِلَهَ الخَلْقِ أَرْفَعُ رَغْبَتِي وَإِنْ كُنْتُ يَا ذا المَنِّ والجُودِ مُجْرِمَا وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي، وَضَاقَتْ مَذَاهِبي جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّما تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِيِّ كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَن الذَّنْبِ،لَم تَزَلْ تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وتَكَرُّمَا ذلك هو جانب من شعر الحكمة عند الإمام الشَّافعي بما يحمله من رؤية وتصوَّر لجوانب في عصره، وللحديث بقية إن شاء الله. * الجامعة الإسلامية – المدينة المنوَّرة Mh1111m@ : تويتر [email protected]