من الأسماء الأبهوية التي استغرق حب أبها قلوب أصحابها وترجمتها أسلات أقلامهم الأديب الراحل الأستاذ الدكتور أحمد بن عبدالله النِّعمي -رحمه الله- وقد كان قبل سنوات مضت ملء السمع والبصر أستاذًا جامعيًا للأدب الأندلسي في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، طالما أسعدنا بكتاباته الأدبية والنقدية الرائعة في الصحف المحلية والتي من أبرزها ملحق الأربعاء الأدبي التابع لصحيفة المدينة، وقد عثرت في مكتبتي الخاصة على أحد أعداد هذا الملحق وهو العدد الخامس والثمانون الصادر في تاريخ 29/1/1405ه أي قبل ثمانية وعشرين عامًا من الآن، وتضمن بوحًا جميلًا لأديبنا الراحل تحت عنوان [أبها في عيني ابنها الغريب] ويسعدني أن أتحف القراء الكرام به ليسعدوا بما ورد فيه من جماليات التعبير، وعمق المحبة لأبها في قلب الكاتب رحمه الله حيث قال: «خمس وعشرون سنةً أماه وابنك مقرَّح الجفن غريب، ومقرور حزين، تلسع أديمه سياط الاغتراب واليتم والخوف الراعد الصاعق والوحدة والأنين وقرارة وجهي العملة في وجوه البشر في مجموعة من بقاع الدنيا... ورياح لاسعة متصلة من رحيق اليتم اخترقت مني اللحم واجتازت العظم وخالطت منِّي سر الحياة يا مدينتي الرائعة.. يا حلمي الكبير.. بل يا أمي الحنون!... لم تعد زهور الدنيا مهما فاح أريجها يعزِّيني ولم تعد أضواء المدن وبهارجها تغنيني عن ذكرك لحظة، بل صارت أجمل المدن في نظري عيون حزن رطبة المسالك.. ساخنة المحاجر.. لولا أني حملتك في جوفي وضمن دمي!... كما حملت مريم العذراء ابنها السعيد عيسى عليهما السلام إلى جذع النخلة واتكأت عليه في أحضان رابية بيضاء نقيَّة كقلبها الطاهر وعفافها العفيف لتهب هبة الله لها وللبشرية بعيدًا عن ألسنة الشر والحقد والغيرة والظلم والأنانية والبهت وقطيعة الأرحام.. كذا حملتك يا أبها في عقلي وقلبي وفي جيب ثوبي الحائل اللون المغترب بطاقةً تؤكد أنني من تربتك وابن مائك وعرقك وهوائك وأغوارك ونجودك وشجرك وحجرك.. عباد الله.. يا مدينتي يفتنهم جمالك فيقولون بصدق «أبها» جميلة فاتنة كعذراء نقية طاهرة ذكية مؤمنة بالله وملائكته ورسله وبالقدر خيره وشره قد خرجت لتوها من بحيرة عذبة صافية كلهم قال ذلك يا زهرة المدائن!!! ولكني أقول غير هذا.. فهم رأوا ضفائرك العربية السود تغطي ملامحك الفاتنة.. ورأوا الحسن والشفافية يلفَّان إزارهما على جسدك.. ورأوا جبالك التي اجتازت طور المراهقة إلى العنفوان فخاف عليهما السحاب من أعين الحُسَّاد فبادر إلى احتوائها بضبابه الوسيم في غيرة صاعقة وشهامة يعربية، ولفّ ستائره حول الأقدام مخافة أن يدنس عفافها فجور فاجر لا قيَّم لخالقه وجهه.. ورأوا أوديتك الخضراء التي تلثم أصداغها شقائق النعمان وحلمات الورد والياسمين وخصلات الأقحوان وأقدام العذارى المرحات وتمرح فوق هذا وذاك عمائم الريحان وعيون البنفسج.. وشربوا من ينابيع مياهك العذبة الباردة التي أغلقت الباب في عيون شركة إيديال ووستنجهاوس واعتذرت منهما في أدب جمٍّ فقالت هذه مياه العافية والنقاء والبراءة..!! لمحوا مروجك الخضر الزواهر فقالوا: جنة من الله على أرضه وفتنة إن لم يترعرع الحب فيها فأين يعيش؟! وأي مرتقى آخر يمكن أن يشب عن الطوق فيه؟! رأوا العفَّة والجمال والجلال والسحر الحلال في عيون الصبايا فقالوا: فتنة في فتنة وعلى فتنة، فلقد طرد الشيطان من تلك الجنان شر طرده!! رأوا رجالك وفتيانك الأوفياء الأنجاد والأبرار الأقوياء المتدينين يخدمون وطنهم في روعة وسهولة ووضوح وقوة وإخلاص فقالوا: تحت صخر وتاريخ عميق وحواليك يا دُرَّة من درر بلادي مدائن وقرى كحبات العقد حفَّت بواسطته النفيسة!! حتى أستاذي القاهري «محمد الجوهري» ذلك الأزهري العريق الذكي الفؤاد الصلب القوي الإيمان أنطقته أبها العظيمة بقصيدة رائعة حفظناها منه منذ الطفولة كما نحفظ أريجك حيث قال: دعاني نحو أبها ما دعاني فليس لها في القلب ثاني بلاد كل ما فيها جميل لها سحرٌ ولا سحرُ الغواني ثم ختم القصيدة العصماء، وقد أسرته بجمالك بقوله: ومن كانت إقامته بأبها فقد رزق الإقامة في الجنان لقد هام في جمالك يا مدينتي الأدباء والشعراء والعلماء والمؤرخون والأطفال والكهول وحتى ذوي الحس الجافي والقلوب الغليظة استسلموا جميعهم لروعة جمالك وقوته وصلابة محتده وأصالته كما استسلمت جيوش الرومان في موقعة اليرموك لسيوف سيف الله اللامع خالد بن الوليد رضي الله عنه كل هذا عرفه لك وفيك أبناء المملكة العربية السعودية من أقصاها إلى أدناها وعرفه كذلك الأشقاء والأصدقاء والغرباء من مختلف أمم الأرض، ولكني أعرف منك وفيك ولك أشياء رائعة وعميقة وراسخة رسوخ روحي في جسدي. مدينتي الحبيبة لن أتعسَّف ولن أتكلف ولن أكون بحال من الأحوال مثل نيرون كما تحكي الأسطورة الذي أحرق روما ليبدع قصيدة، فأنت أثمن من كل القصائد والمعلقات ودواوين الشعر الإنساني كله.. أنت قصيدة حياة أبدعها خالق الحياة والأحياء ورب الأزل والأجل وباعث الخلق ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.. فكل من رآك أحبك ومدَّ لك حبل العشق ممهورًا بالوفاء والغناء فيه... كلهم يا مدينتي أحبوا المظهر لا المخبر والله يشهد أن الجمال يُحَبُّ..!! ولكني أيتها الرائعة أحببت فيك معاني وأشياء... أحببت فيك يا مدينتي روحك النابضة بالكرامة والعنفوان... أحببت فيك المساجد والجوامع.. أحببت فيك قسوتك وكم أنت قاسية رهيبة..!! لقد عرف فيك من عرف جمالك الصاعق الذي يتضاءل أمامه ريق العذارى الجنى.. ودفق العافية.. وتنكمش في محرابه وأمام صطوته عيون الغيد الدعج وتلغي الأعين من الآذان والافتنان بروائع الألحان، وتنسي الشاعر الفذ أبجديات العزف على أوتار الحروف والعواطف والأفكار ليهيم مع الواقع لا الخيال ومع الطبيعة لا الصنعة..!! عرفت فيك المئذنة والمسجد وتلاوة القرآن وأزيز الرياح وقصف الرعود وانهمار الأمطار المتصل الذي علَّق أبناءك ذات يوم في هامات الجبال الرهيبة وآذانها وأنوفها وكهوفها وأكتافها حين عبرك وملأك بما يشبه طوفان نوح عليه السلام حتى وصلت مياهه منك إلى الأذقان.. وعرفت منك الصبر على المكاره وتحمل الاغتراب في صلابة وإيمان.. أو ليس العصر يا مدينتي الساحرة عصره وزمانه؟! عرفت فيك أطوع خلق الله لخالقهم.. وأعلمهم بعلوم القرآن والسنّة على الإطلاق.. ضاعف الله أجره.. وشفى جسده وروحه وعافى قلبه المضنى من آلام المرض.. إنه شيخي وقدوتي بعد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام وصحابته الأجلاء رضي الله عنهم إنه إمامي وأستاذي وشيخي ومنهجي الصالح العابد المؤمن الخائف من ربه المرتعش لذنبه أستاذ القضاء والقضاة ومعلِّم الأجيال تلو الأجيال إنه رأس علماء وطني وصلاح بلادي إنه الشيخ العابد والعالم الزاهد «عبدالله بن يوسف الوابل» [توفي رحمه الله عام 1421ه] أستاذ مجموعة عزيزة من العلماء والأفذاذ والقضاة المرموقين.. إنه يشبه الإمام مالك إمام الهجرة رضي الله عنهما في ورعه وعلمه وزهده مع صلاحه وتقواه وتحرزه من الشبهات... إنه من وعت طفولتي منه قول: لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.. إذا خرج من باب مسجده المجاور لمسكنه البسيط المتواضع في حيِّ «مناظر» وبصوته النقي الذي لم يذهب صداه من قلبي حتى هذه اللحظة.. سمعته من غيره بمثل عدد شعر رأسي ولكن الواقع غير الوقع والعمق غير العمق والصلاح غير الصلاح!! إنه وارث شرعي من ورثة الأنبياء عليهم رضوان الله وصلاته وسلامه كما قال منقذ البشرية لها من الجهل والأحقاد والزيف والشرك والضلال والبطش محمّد بن عبدالله بن عبدالمطلب عليه صلاة الله وسلامه عليه عدد ما نزل قطر وما تحرك غصن وما نبض قلب وما ارتدَّ طرف إلى يوم القيامة حيث قال: (العلماء ورثة الأنبياء) وقد كان شيخي عبدالله بن يوسف الوابل وارثًا وموِّرثًا..!! عرفت فيك يا مدينتي الرائعة الصفاء والزهد والصلاح والتقوى والقناعة وكف الأذى والنجدة والبر والإخاء والصدق ومجابهة أقسى ظروف الحياة.. وكل هذه القيم حملها الصفوة من أبنائك معهم أينما ذهبوا.. وحيثما حلُّوا.. إنك يا مدينتي تضمِّين على البعد بطحاء مكة ونخيل الرياض الفيحاء وأهداب الدمام الرائعة الفتية وبقاع يثرب الطاهرة وبقيعها ومياه شقراء العذبة وينابيع الخرج المعطاء وتعانقين عنيزة ذات الأريج الفوَّاح والتلال الممرعة وترمقين بريدة الخير بحب وتمدين لتبوك يدًا حانية وتغتسلين بمياه بحر جدة الفاتنة السامقة وتطوفين حول بيت الله في خشوع ورهبة وسكون وتناغين في ود أصيل مدينة حائل مدينة الجبال والرجال.. وتشدين في روعه على كف الطائف وتعانق جبالك الشم جبالها وتبسمين لمدن بلادي وقراها من عرعر إلى نجران ومن الجبيل إلى خميس مشيط ومن الظهران إلى ينبع..!! وجاء أميرك الشهم الفذَّ سلالة الماجدين فطرَّز لك ثيابًا نادرة المثال.. ورسم بحنكته الفريدة وصبره ورجولته لك بحيرة رائعة تضاهي مصبَّات ومنعطفات نهر الدانوب الأزرق.. وحوَّلك إلى مدينة تضاهي أجمل مدن الدنيا بدون نزاع بلمساتها الفريدة وهوائها الحاني الأصيل فلا تسمع فيها إلا صوت الآذان وأن لا إله إلاَّ الله محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. مدينتي الحبيبة إنها زفرة وفاء وبيت شعر من معلقة طويلة رائعة وعنوان ملحمة تضاهي «أغاني الرعاة» وسطر من رواية خالدة فريدة دفعني إليها الأستاذ الأديب المخلص «غالب حمزة أبوالفرج» [توفي إلى رحمة الله] رئيس تحرير جريدة المدينة الغرَّاء قبل سفري من جدة إلى أبها لأقضي بها أيامًا إن أراد الله لنا حياة.. وها أنا قد رسمت لك يا مدينتي سطرًا من سطور الحب والصدق والوفاء والولاء وأشكو إلى الله ثم إليك من التقصير فجمالك حيَّرني.. وذكرياتي التي أحملها لك أرهقتني.. فصرت كما قال أمير الشعراء في عصرنا الحديث «أحمد شوقي بك» يرحمه الله رحمة واسعة: تحرّكْ أبا الهول فهذا زمان تحرّكَ ما فيه حتى الحجر ولك السلام.. وعليك السلام يا مدينتي غلاء الحياة». فما أجمله من بوح شعوري رائع صاغه ذلك الأديب النعمي العسيري سلالة بيت العلم والقضاء والتاريخ والأدب بأسلوب جميل وعواطف مشبوبة وعبارات رقراقة جديرة بالقراءة ومعان صادقة معبرة وخيال محلِّق في جمالات أبها البهيَّة مكانًا وزمانًا. وإنني في ختام هذه الشذرات لأهيب بأبناء الدكتور أحمد النعمي -رحمه الله أن يسارعوا إلى جمع تراثه الأدبي ودفعه إلى نادي أبها الأدبي ليتولَّى طباعته ونشره لأنه تراث ضخم يحمل في ديَّاته الأدب والعلم والتاريخ والتجارب الذاتية القيَّمة. وبالله تعالى التوفيق.