إنني في كتابتي عن الشأن الأبوي أحاول إعطاء نفوس القراء زاداً جديداً غير ما هو دارج اليوم من الموضوعات وما قد يكون مكرراً من القضايا.. التي قد تكون عافتها النفوس، وصارت تنفر منها القلوب.. لكثرة ما كتب عنها.. وما في بعضها من زيف المجاملات، وأحياناً ما تحمله من روح التشاؤم القاتل. إن النفوس تحتاج من حين لآخر لأن ترتوي ماءً عذباً غدقاً جديداً تنتعش معه مشاعرها.. ويحلو لها عند تذوقها له.. ولولا ذلك ما تنوعت أغراض الشعر، وتعددت مباحث الثقافات. ** ** ** في المقال السابق كانت الخواطر متداخلة، والكتابات عن الأبناء والأحفاد كثيرة، تزينها المواقف النبوية الشريفة من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حفيديه الصغيرين، وتسير على نهجها القصيدة الغراء لشاعرنا الكبير بدوي الجبل، التي أشرت إليها وذكرت أنه هو صاحب العنوان: (يا ربّ من أجل الطفولة وحدها). وتمثل هذه القصيدة - كما أرى - أجزل (معلقة للأدب الأبوي، والوطني) لأنها تجمع الخصائص الفنية للشعر العربي القديم والحديث. ** ** ** إنني منذ عرفت الشاعر العملاق بدوي الجبل، والفضل في التعرف عليه والمصاحبة لشعره يعود بعد الله إلى أخي وصديقي الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك، المغرم بهذا الشاعر العملاق، والذي عرّفني بكنوزه، وفي يقيني أن هذا التعريف بهذا الشاعر أعظم هدية يُقدمها صديق إلى صديقه، ومخلص إلى أوفيائه، وإن كانت ليست كل أفضال صديقي أبي بسام عليَّ. والصديق الدكتور راشد هو بحق من كبار القراء والدارسين، والمتذوقين لفن الشعر بمستوى أدبي عالٍ، ثمرة ثقافته الأصيلة الواسعة المتنوعة، والشاهد على ذلك كتاباته الرصينة، ومؤلفاته الفريدة، ذات الفلسفة العميقة، وعلاقاته الاجتماعية المتشعبة. ** ** ** إنني لا أكف عن الارتواء من عذب هذا الديوان، وحين أتنقل بين خمائله اكتشف في كل بيت معنى جديداً لم يسبق لغيره من الشعراء، وهذا ما يُسمى (الأصالة الفنية) في عرف علماء الأدب والنقد الأدبي، وبها تميز شاعرنا كما تميز بها المتنبي من قبل. إنني كثيراً ما أنشد مع نفسي وأسرتي، وأردد على مسامع بعض أصحابي ما أنا معجب به من أبيات له - وخاصة قصيدة (البلبل الغريب) التي نحن بصدد الحديث عنها - والتمتع بجمالها. لقد انتقيت عدة أبيات منها وجعلتها لوحة فنية تزين جدار بيتي - كما أهديت مثل ذلك لوحة فنية غالية مطرزة عليها هذه القصيدة إلى كل واحد من أبنائي وبناتي؛ وذلك لشدة ولعي بهذه القصيدة البائية الرائعة، والتي أساسها البحر الطويل. ** ** ** مع البلبل الغريب: بدأ شاعرنا قصيدته بداية غزلية - كمحب عاشق متوهج الصبابة - فاق فيها حب كل الشعراء السابقين واللاحقين الذين تعوّدوا ذلك في مطالع قصائدهم. بداية غزلية طويلة في عشرين بيتاً صور فيها الجمال الآسر، والاعجاب القاتل.. لسحر جمال محبوبته.. ولذا يطلب منها المزيد من توقد الحب ووهج الإعجاب: سلي الجمر هل غالى وجُنَّ وعُذبا كفرتُ به حتى يشوقَ ويعذبا ولا تحرميني جذوة بعد جذوةٍ فما اخضلّ هذا القلبُ حتى تلهبا إنه حزين للبعد عنها.. يطلب حزناً فريداً لم يعرفه أحد قبله: هبيني حزنا لم يمرّ بمهجة فما كنت أرضىَ منكِ حزناً مجرباً وصوغيه لي وحدى فريداً وأشفقي على سرِّه المكنون أن يتسربا إلى أن يقول: فما الحزن إلاّ كالجمال أحبه وأترفهُ ما كان أنأى وأصعبا إنها لجمالها لم تفارقه أبداً، في حله وترحاله.. في وطنه وغربته: خيالك يا سمراء مر بغربتي فحيَّا، ورحبَّنا طويلاً ورحبا أرى طيفك المعسول في كل ما أرى وجِدتُ، ولكن لم أجد منه مهربا سقاني الهوى كأسين: يأساً ونعمةً فيالك من طيف أراح وأتعبا لكنه يهدأ بعد هذا الوهج العاطفي قليلاً حين ناوله هذا الحبُّ لهذه الحسناء كأساً من حب لبنان وغوطتيْ الشام.. فهدأ قليلاً.. وقال: وناولَني من أرز لبنان نفحةً فعطر أحزاني، وندىَّ، وأخصبَا وثنىَّ بريَّا الغوطتين يذيعها فهدهد أحلامي، وأغلى وطيّبا ** ** ** ويجره ذكر الغوطتين إلى الحب الحقيقي الكامن في قلبه الممتزج بحركاته.. المخالط لكل مشاعره - حب (حفيده محمد) الذي هو بطل هذه المعلقة.. وتاج الحديث فيها.. إنه أحب شيء إليه.. إنه أحلى وأعذب ما يشعر به.. وهل دللت لي الغوطتان لبانةً أحب من النعمى وأحلى وأعذبا وسيماً من الأطفال لولاه لم أخف - على الشيب - أن أنأى وأن أتغربا وفي سبق غير معهود في الحديث عن الصغار الأحباب من الأبناء والأحفاد.. وما يقدَّم لهم من اللعب والهدايا يقول: تود النجوم الزهر لو أنها دُمى ليختار منها المترفات ويلعبا ويصور بعض لحظات ولقطات هذا الحفيد في مختلف الأوقات: يجور، وبعض الجوْر حلوٌ محببُ ولم أر قبل الطفل ظلماً محبَّبا ويغضبُ أحياناً ويرضى، وحسبنا من الصفو أن يرضى علينا ويغضبا ومن ذلك أيضاً ما يكون نحوه إذا طلب شيئاً - أو إذا خطا أو حبا: ويوجز فيما يشتهي - وكأنه بإيجازه دلاً أعاد وأسهبا يزفُّ لنا الأعياد عيداً إذا خطا وعيداً إذا ناغى، وعيداً إذا حبا ** ** ** وأما عن عطاء الآباء للأبناء والأجداد للأحفاد.. وماذا يريدون لهم فإن شاعرنا يصوره أبرع تصوير شعري وقولي، لأنه الحب الحقيقي الذي لا تحول عنه، ولا نقص فيه أبداً.. يسكب له العين والقلب إذا أراد ماء ليشرب - يجوع هو ويظمأ ليُروي ويشبع حفيده، عند تقبيله يشعر كأن ثغره كوكب زاهٍ.. ينام في قلبه المفروش بالحرير ويتغطى بأجفان عيون جده المحب الكبير: وأوثر أن يروى ويشبع ناعماً وأظمأ في النعمى عليه وأسغبا وألثم في داج من الخطب ثغره فأقطف منه كوكباً ثم كوكبا ينام على أشواق قلبي بمهده حريراً من الوشي اليماني مذهبا وأسدل أجفاني غطاء يظله ويا ليتها كانت أحنَّ وأحدبا ولأجل هذا الحفيد الحبيب يتحمل الجد الكبير كل شيء، لأنه يؤثره على نفسه في كل شيء.. وكل حال: وحملني أن أقبل الضيم صابراً وأرغب تحناناً عليه وأرهبا فأعطيت أهواء الخطوب أعنتي كما اقتدت فحلاً معرق الزهو مصعبا تدلهتُ بالإيثار كهلاً ويافعاً فدللته جداً وأرضيته أبا وتخفق في قلبي قلوب عديدة لقد كان شعباً واحداً فتشعبا ** ** ** ولأجل هذا الطفل الحفيد، لأجل أن يعيش سعيداً لا يعرف الشر، ولا يُعاني من شيء.. دعا الشاعر ربه أن يُسعد كل الأوطان، وأن يشيع عليها الأمن والخير والسلام؛ حتى يعيش جميع الأطفال في سعادة لا تتكدر، وفي فرحة لا تتغير. دعوة السلام عند شاعرنا لجميع البلاد والأوطان.. لا لأجل صلح سياسي، ولا لأجل ازدهار اقتصادي؛ إنما لأجل الطفولة البريئة.. لأجل الصغار الذين هم كالملائكة الأبرار. وهذا ما أشرت إليه في المقال السابق من أنه كان وراء استمرار إعجابي بهذه القصيدة الفريدة.. وهو قوله: ويا ربّ من أجل الطفولة وحدها أفض بركات السلم شرقاً ومغربا وردّ الأذى عن كل شعب وإن يكن كفوراً، وأحببه وإن كان مذنبا وصن ضحكة الأطفال يارب إنها إذا غردت في موحش الرمل أعشبا ملائك لا الجنات أنجبن مثلهم ولا خلدها - أستغفر الله - أنجبا ويارب: حبّب كل طفل فلا يرى وإن لج في الإعنات وجهاً مقطبا ** ** ** وكأن حبه لحفيده.. وكأن مشاعره النقية الرقيقة نحوه، وكأن وفاءه ومودته الراسخة له.. قلّبت عليه المواجع حين تذكر صديقاً لم يكن كمثل حبه له، ولم يرع مودته ووفاءه له. شيء من الحديث عن النفس، وما يلاقيه الإنسان من مختلف المواقف والناس يصوره لنا في قوله: ويا رب في ضيق الزمان وعسره أرى الصبر آفاقاً أعزَّ وأرحبا صليب على غمز الخطوب وعسفها ولولا زغاليل القطا كنتُ أصلبا ولي صاحب أعفيته من مودتي وما كان مجنون الغرور ليصحبا غريبان لكني وفيت وما وفى ونازع حبل الود حتى تقضّبا ويا رب هذه مهجتي وجراحها سيبقين سراً إلا عنك محجَّبا ** ** ** وبعد هذه النفثة الحارة حزناً على ضياع الود والوفاء تهدأ أحزانه، وتخف لوعته حين يتذكر وطنه ومن فيه من الأحباب، رغم كل ما يلاقي فيه ومنه، وهذا ما سيكون حديثنا القادم إن شاء الله. وهنا أدعو إلى التمتع بسعادة الأبناء، والأحفاد، وفي الوقت نفسه نزيد من سعادتهم بحسن توجيههم، وطيب رعايتهم. إن الأبناء والأحفاد حين يوفق الله الآباء، والأجداد إلى تربيتهم تربية حسنة فإننا نزداد بهم فرحة، ويملأون حياتنا رضا وبهجة، ويجيء تفوقهم العلمي وتميزهم الخلقي زيادة مستمرة في حبهم والفرحة بهم.. إن حبنا الشديد لأبنائنا وأحفادنا يجب ألا ينسينا واجبنا نحوهم - وضرورة الأخذ بأيديهم إلى مسالك الصلاح في كل شؤون الحياة. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.