أيهما يصطنع الآخر.. الشعب أم الدكتاتور؟! سؤال قد يبدو غريباً، لكن إصرار أي دكتاتور على الاحتفاظ بالسلطة رغم «انشقاق» شعبه عليه، قد يشير إلى أن الدكتاتور يراهن على قدرته على اصطناع شعب بديل، وإلا فلماذا سيبقى في موقعه، وماذا ستكون وظيفته المقبلة إذا قرر الشعب بأغلبيته الاستقالة من وظيفته كشعب؟! المشهد الراهن في سوريا، قد يبدو موحياً بأفكار، وملهماً بتساؤلات، خاصة بعد ما نُشر حول انشقاق بشرى الأسد شقيقة الدكتاتور بشار الأسد، فالانشقاق قد دخل الآن دائرة العائلة، وبات بوسع الأخت أن تقرر الإفلات من ملاحقة تبدو وشيكة لرموز نظام يقوده شقيقها، بعدما رأت كيف أطاح انفجار أحد المقار الأمنية برأس زوجها آصف شوكت نائب وزير الدفاع وأحد أعمدة النظام السوري. تشير تجارب التاريخ إلى أن الدكتاتور يصنعه شعبه، فهو ابن ظرف ونتاج ثقافة، أما سقوطه فقد يقع إما لتغيّر الظرف، أو لتحوّل في الثقافة التي حملته إلى موقع السلطة، والراجح أو الغالب حتى الآن، هو أن الظروف قد تتغيّر بأسرع كثيراً مما تتغيّر الثقافات، الأمر الذي قد يفتح الباب مجددا لدكتاتور جديد، يستثمر الظرف الجديد وتستسلم له الثقافة القديمة. بعيداً عن هذا الجدل الذي قد يراه البعض عقيماً، أو أن هذا ليس وقته، أعود إلى ما طرحته في مقال الأسبوع الماضي، حول مصير النظام في سوريا، فالمؤشرات تقول: إن السقوط بات وشيكاً، وإن الانشقاقات دخلت بيت عائلة الأسد ذاته، بعدما طالت في السابق ضباطا كبارا في جيشه، ورموزا سياسية كبيرة من بين معاونيه (رياض حجاب رئيس الوزراء السابق مثلاً). وكنتُ قد أشرتُ في المقال السابق إلى أن مصير الأسد لن تحسمه مآلات الصراع المسلح على الأرض بين قوى المعارضة وبين قوى النظام، بقدر ما سيتقرر مصيره بناء على حسابات إقليمية ودولية، تستثمر بدرجة كبيرة صمود المعارضة السورية في الداخل وقدرتها على امتصاص الضربات والرد عليها وإن بمستوى أقل. في تقديري فإن ساعة احتماء الأسد بعرين العائلة في القرداحة، ربما بدت قريبة، وأن افتقاده للقدرة على تبني خيارات وبدائل سياسية تسمح له بالخروج الآمن تتراجع بدرجة مذهلة، فهو سيواصل الهروب إلى الأمام طوال الوقت، غير مستوعب وربما غير مدرك لحقيقة أن خارطة التحالفات الخارجية التي ساعدته على البقاء حتى الآن، تتغيّر وتتبدّل مع الوقت، وأن أيَّا من موسكو وبكين، لن تتمكنا من مواصلة الرهان عليه، تحت ضغوط دولية متزايدة، قد تشتمل على جوائز وعناصر غواية، تتيح لكل من روسيا والصين «خروجاً مشرفاً»، أو تضع تحت كل شجرة اعتلاها البلدان سلماً يتيح لهما النزول، دون أضرار كبيرة. مسوغات التحول في الموقف الدولي تجاه الأزمة السورية، ربما تكمن في عدم قدرة الوضع الدولي الراهن على احتمال استمرار الأزمة السورية لمدى زمني طويل، فالأزمة السورية تضغط بقوة على خطط واشنطن للجم طموح طهران النووي، وكذلك على خطط إسرائيل لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية بكلفة أقل. والأزمة ذاتها تضغط بقوة على طموحات التنمية في تركيا، كما تضغط بقوة على فرص الاستقرار الإقليمي، في دول الربيع العربي، وفي سواها أيضاً، فضلا عن أن إنجاز التغيير داخل سوريا، يبدو وكأنه شرط مسبق لملاحقة القنبلة النووية الإيرانية التي تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن أمام طهران سبعة أشهر على الأكثر لتركيبها، أي أن تحييد سوريا أو إزاحة نظام الأسد يجب أن يسبق أي محاولة لضرب الطموح النووي الإيراني. وهكذا فإن استكمال عملية إسقاط النظام في سوريا، يبدو مقيّدا ببرنامج زمني لا ينبغي أن يتجاوز نهاية العام الجاري. ثمة شواهد أيضاً، تفصح عن وعي دولي وإقليمي بأهمية تهيئة المسرح السياسي السوري لليوم التالي لسقوط النظام، بهدف تجنيب سوريا والمنطقة آثاراً جانبية مؤلمة لجراحة استئصال النظام في دمشق، فالأمريكيون يتحدثون عن خطط استخباراتية لضمان ألا تسقط ترسانة سوريا من الأسلحة الكيماوية في قبضة جماعات متشددة (القاعدة مثلاً)، وألا يستخدم النظام ترسانته الكيماوية ضد شعبه إذا ما استشعر دنو نهايته، والفرنسيون يتحدثون عن خطط لضمان انتقال السلطة إلى هيكل سياسي يحترم الالتزامات الدولية لدمشق ويصون وحدة سوريا بعد سقوط النظام، فيما تتحدث قوى المعارضة السورية عن تشكيلات إدارية ومحلية وأمنية تصون الأمن في «المناطق المحررة»، تجنباً لسيناريوهات دموية وعاصفة أمكن مشاهدتها في ليبيا عقب سقوط نظام القذافي. نحن إذن إزاء استعدادات مبكرة لليوم التالي بعد سقوط بشار الأسد، يعكف عليها أجهزة استخبارات عالمية وإقليمية، جنباً إلى جنب مع قوى المعارضة السورية في الداخل والخارج، وكلها مؤشِّرات تقطع بأن ثمة من يرى في العالم وفي الإقليم أن ساعات بشار الأسد باتت معدودة، وأن مشهد خروجه حياً أو ميتاً، من أحد الأقبية في مسقط رأسه في القرداحة، قد يكون قريباً.. لكن بعيداً عن كل تلك السيناريوهات المفترضة أو المرجحة يبقى سؤال: لماذا يُفضِّل الدكتاتور العودة إلى مسقط رأسه كلما دنت ساعة سقوطه؟.. والسؤال الأهم: لماذا يخفق أغلب المستبدّين في قراءة المشهد حولهم على نحو صحيح، ويسيرون باختيارهم نحو مصير محتوم داخل حفرة أو أنبوب لتصريف مياه السيول، أو حتى في أحد الأقبية؟!..أزعم أنني قد أعرف الإجابة، تماماً كما أعرف أن الأسد قد بدأ رحلته في الطريق إلى «سرت». [email protected]