سطحية الظاهرية قد تؤدّي إلى الكفر، كما أن تعجّلَ الفهم، وضعفَ إدراك اتّساع آفاقه، وجفاف الأذواق من أساليب العرب: كل ذلكم من أهم الأسباب التي تؤدّي إلى رد النصوص الصحيحة، وبحجة مخالفة العقل الضروري والحس اليقيني. مثاله: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)، وحديثه صلى الله عليه وسلم: (منبري هذا على تُرعة من ترع الجنة). والترعة: الباب. فإذا أصر أحد على أن هذين الحديثين على ظاهرهما تمامًا، وأن الروضة الشريفة في مسجده الشريف صلى الله عليه وسلم روضة موجودة في جنة الخ لد التي وُعد المتقون، وأن المنبر يقبع فوق باب من أبوابها الثمانية: فقد سمح بأن يكذّبه تكذيبًا يقينيًّا كلٌّ من العقل والحس! وعندها ليس له إلاّ أحد ثلاثة مواقف، كلها مواقف سوء وجهالة: - فإما أن يُلغي عقلَه وحِسَّه، وهذا فساد كامل للعقل، يؤدّي بصاحبه إلى فساد الدين والدنيا معًا. - وإمّا أن يَكفُرَ بدينٍ يأمره باعتقاد صحة الكذب المخالف للواقع. - وإمّا أن يُكذّب هذا النصَّ الصحيح، كما نقل ابن قتيبة الدينوري (ت276ه) عن بعضهم أنهم قالوا عن هذا الحديث الصحيح: (هو حديث يكذبه النظر (أي العقل)، والعيان (الحواس)، والخبر، والقرآن)!! والصحيح في فهم الحديث: أنه مجاز عن أن هذه المواطن أبوابٌ للجنة؛ لأن الحسنات فيها تتضاعف، والأجور فيها تعظم، فتكون من أعظم أسباب دخول الجنة، حتى كأنها لقرب التوسُّلِ بها إلى الجنة قطعةٌ من الجنة، وحتى كأن منبره صلى الله عليه وسلم في شرفه وفضل العمل عنده بابٌ من أبوابها: يَفتحُ عليها، ويُولج السالكين إليها. كما قال صلى الله عليه وسلم: (عائد المريض على مخارف الجنة)، والمخارف هي الطرقات. وكقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ). فانظر كيف جاءت الظاهرية السطحية بشر على الدين!! وكيف أنها ليست من تعظيم النص في شيء؛ لأنها أدّت إلى القدح فيه وفيه الدين!! وانظر أيضًا: كيف سيقود عدم التفهم العميق للحديثين، بسبب ضعف إدراك أساليب العرب في الكلام: إلى رفض التفسير الصحيح؛ بحجة أنه تفسيرٌ متعسَّف، وتأويل متكلَّف، وأنه فلسلفة تخالف الدلالة الواضحة!! كما نسمعه بعض الأحيان من بعض المثقفين ثقافة غير عربية، في فنون العلوم غير العلوم العربية. فما أعظم مصيبتنا من اثنين: - ظاهري سطحي، يظن سطحيته هي الإيمان، وأنها هي التعظيم الصحيح للوحي. ويتهم من يتعمق فيها، ويغوص في معانيها، ويستنبط مراميها: بأنه متكلف متأول مفتون، وعقلاني أرأيتيٌّ يقدّمُ عقلَه على النص!! - ومغرور بثقافته، يظن تَفهّمَ كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كله أمرًا سهلاً، يستطيعه كل أحد، حتى ولو كان جاهلاً بلغة العرب وأساليبها في التعبير. فتراه يرد كل ما لا يقبله مزاجه، ويعترض على علمِ ما لم يبلغه علمُه، وهو يظن نفسه يُحَكّمُ عقله، وأنه بذلك يرفض التبعيّة والتقليد الأعمى، وهو إنما حكّم جهله ومزاجه الخاص، ورفض ما يُلزمه به العقلُ من التسليم لأهل الاختصاص وعدم الاعتراض بالجهل على العلم وأهله. والصواب بين هذين: فلا قبول سطحية الظاهرية في فهم النص ممدوح، ولا سطحية نقد المنقول مقبول. وإنما الممدوح: هو قبول الفهم العميق لنصوص الوحي، والمقبول: هو النقد العلمي الدقيق، والذي لا يتعجل صاحبُه رَفْضَ أو قبول شيء بغير أن تكتمل عنده آلاتُ نقده وعلومُ تمييز صوابه من خطئه.