الحماقات التي يصادفها الناس فى حياتهم الشخصية ولها وجه شبه بالغوغائية لا تندرج تحت مسماها، فالغوغائية لكي تكون كذلك يجب أن تمارس في دائرة جماعية وعلى رأي عام، وهي في الإعلام العربي قاعدة سائدة لها استثناءات، إذ يعد من قبيل الغوغائية إطلاق الأحكام المرسلة عبر خطاب غير مؤصل ولا ممنهج، تغمط فيه المقدمات وتقدم النتائج كأنها حقائق مبرهنة. والغوغائية درجات، أحطّها يبلغ من السفه والصفاقة ما يثير الاشمئزاز، ومن حسن حظ جمهور الميديا الورقية أنهم لا يتعرضون لمثل الغث المتاح في الميديا الإلكترونية، وإن كانوا ليسوا بمنجى من درجات أقل سوءًا. هذا نتاج لغلط ونقص، لغط في فهم دور الوسيلة الإعلامية، ونقص استيعاب فنيات إدارة الخلاف، وكلاهما مردود إلى عقل ثقافي في طور الحضانة. فدور الوسيلة أن استغلها في بيان وجهة نظري، والتوسع ما استطعت في شرحها، لا للنيل من خصومي، التركيز على الخصوم دال على أن لا قضية لي خارج النزاع معهم، ولا سبيل لإثبات صحة موقفي إلا بمهاجمتهم. أما عن نقص فنيات إدارة الخلاف فحدث ولا حرج، هل قلت فنيات!؟، استغفر الله، لأن المشاهد غياب تام لها حتى في أداء الوسائل الأدعى للاحترام. هناك شكلان للغوغائية، واحد تحت السيطرة والمراقبة، والآخر مطلق له العنان إلى حد ما، وكلاهما غوغائي، الفرق أن الأول لا يضع في حسبانه الرأي الآخر لأنه غير موجود، الثاني فتح فيه باب اللغو لمن استطاع تحمل الكلفة المالية لوسائل ترويجه، وهذا هو مناخ الغوغائية الشاملة. تريث قبل أن تستنتج أني أُحبِّذ الأول على الثاني، فواقع الأمر أن الأخير يحمل احتمالًا ولو ضئيل لانقشاع مناخه، بينما لا سبيل للأول إلى تصحيح نفسه. لذلك فرغم انزعاجي مما يسود الإعلام المصري الخاص (تميزًا له عن الرسمي) من انفلات يعسّر على المتلقي استخلاص المفيد الواضح، إلا أن الوضع قابل لإصلاح نفسه، عبر اكتشاف الدور النافع الوحيد (أؤكد على وحيد) للوسيلة الإعلامية، وإنها شيء آخر عدا أن تكون وسيلة لغلبة الخصوم بالكلام والمناورات الالتفافية، وما سوى ذلك من أساليب يلجأ اليها ناقص الحجة. فعندما تتعدد الأصوات الحجة مطلوبة، أما خناقات الأزقة فلا ينحاز أحد لأي من أطرافها، قد يتابعها البعض من باب الفضول والسخرية دون تبني لموقف بين أطرافها، إلا إذا كان المنحاز ذا مصلحة أو قربى. لذلك ففي الغوغائية الشاملة أمل لا يتوافر لتلك المقننة عن غير طريق القانون، التي تمكن من انتقاء من له حق أن يكون غوغائيا ومن ليس له هذا الحق، لأن هذه الانتقائية هي ما أدى من البدء إلى شيوع ثقافة اللغو.