إذا تحدثت عن جانب كبير من هذا الشرق أحاول أن أتجنب التصنيف ما استطعت، لأن تصنيفات هذا الجانب مثل شعاراته مُضلّلة لا تقول شيئًا محددًا، غير أنها في بعض الأحيان ضرورية للتمييز، رغم خلوها من التعريف الذي يقيس انطباقها على المصنف، للضرورة سألجأ إلى التصنيف للتمييز بين التياريين الظاهرين في مصر حاليًا، التيار الديني والتيار العلماني. وسأجيب هنا عن سؤال طرحته في ختام المقال قبل الماضي، عمن هم خصوم المجلس العسكري الذي يدير الفترة الانتقالية؟.. خصومه هم كل من حاول (ويحاول) إغراءه بالانحياز إليه ثم لا تفلح محاولته، فينقلب خصمًا. وحتى لا يعد ما قلت هروبًا من الإجابة سأحدد، كلا التيارين الديني والعلماني حاولا استمالة المجلس ولم يفلحا، كلاهما كان وسيكون على خصومة معه من وقت لآخر تبعًا لمواقف المجلس وقراراته، هذا يعني أنه لم ينحز إلى أي منهما، وأنهما معا (الديني والعلماني) ضعيفا الإيمان بالديمقراطية!، كل من يسعى إلى كسب أداة الإكراه إلى صفه في خلاف سياسي (ليقمع بها خصومه) ليس بديمقراطي. واقع الأمر وشواهد الأحداث أبانت أن المجلس بدا أكثر ديمقراطية من الأحزاب التى تتشدق بها ويتعلق مستقبلها عليها!، فإذا صح ما يستقرأ من الظاهر فإننا حيال موقف تاريخي، عفت فيه أداة الإكراه عن الإكراه، على خلاف ما تعارف عليه وقبل به الموروث التاريخي، وضد الميول التقليدية للنفس الأمارة بالسوء. عندما يتقدم العمر بالمرء يزداد تسامحًا مع طبائع البشر وأخطائهم، أو قل يقل انزعاجه منها ومنهم، إلا أن مواقف التيار العلماني تغيظ الحليم، للدقة مواقفه كما عبر عنها إعلامه المتحدث نيابة عنه، وأحد ثمرات الانفتاح الإعلامي بمصر وهو سابق على انتفاضة يناير بسنوات، وطبيعي أن يتسع بعدها، انه أصبح لكل فريق إعلامه الخاص (جرائد، وقنوات تلفزة، ودور نشر)، بما يَسّر للمراقب رؤية أقل غموضًا، ولا أقول واضحة، فالوضوح يتطلب أكثر من الانفتاح الإعلامي، يتطلب تغييرا دراميا للعقلية المهنية الإعلامية، وبين الواقع العربي وتغييرها مسافة طويلة.. مارس التيار العلماني غوغائية إعلامية منفلتة، وقبل أن يسألني أحد إن كانت توجد غوغائية منضبطة، سأقول كل غوغائية لا تخلو من حماقة، يضاعفها أنها تفترض غباء المتلقين، وليس كل المتلقين كما يظن هؤلاء. تكون الغوغائية عملًا لا يمكن تبريره في الأحوال الآتية: أن تكون بلا جدوى، إذا مورست فى ساحة مفتوحة لا يتسلط عليها الغوغائي، إذا ألحقت الأذى بفاعلها.. كل هذه الشروط تنطبق على إعلام العلمانيين في مصر، فعندما يهاجمون منافسيهم في التيار الديني هجومًا غير موضوعي يتصيد أخطاء وزلات نكرات في ذلك التيار ويضخمها يكون كشف للناس أن ليس لديه شيء مفيد أو أساسي يقوله، فأخذ يبحث في الحواشي ويراوغ، أساليب المراوغة الإعلامية من التكرار والشيوع بحيث أصبحت لا تمر على المتلقي المتابع. وعندما يناصب العلمانيون في نفس الوقت المجلس العسكري العداء، أو لنقل المشاكسة، يكون السؤال المنطقي: بمعاداتهم لكل من التيار حائز الأغلبية، وللقوة العملية معًا، فعلى من يعولون وهم بلا شعبية عريضة بين الجماهير؟ هم بلا شعبية لأن إعلامهم تنكب من البدء عن مهمته الأولى والأخيرة تثقيف الناس إلى غوغائية مراوغة جديرة بمن لا رسالة له ولا دور اجتماعي، وبمن يحاول الدفاع عن موقف لا سبيل للدفاع الموضوعي عنه. لو أنه ركز على مهمته الأصلية من البدء لما حاز نتائج التصويت الهزيلة التى حصل عليها. أقوى أسباب خصومة العلمانيين مع المجلس العسكري أنهم كلما ذهبوا إليه لعرض مقترحاتهم وآرائهم تلقوا الإجابة: هذا مما يحتاج لتوافق سياسي، ولا يجوز أن نتخذ فيه قرارات سيادية، اضمنوا موافقة تيار الأغلبية أولًا وسأفعل ما تتفقون عليه.. ألم أقل لك إن المجلس (وهو العسكري!) أكثر ديمقراطية من خصومه. أما المضحك المبكي أن يكون التيار العلماني بالذات من يحاول القفز على الديمقراطية!! فليس بهذه الطريقة يعوض نقص شعبيته، الأنفع له أن يحاول رفع كفاءة إعلامه.