** ذاك المساء حاولت (هي) أن تغمض عينيها بعد صلاة العشاء مباشرة .. . بالتأكيد ليست ( هي ) وحدها ولكن ( هن ) أيضاً . و ( هن ) ربما مئات !!. ... لا وقت لديهن لأن يمنحن أبناءهن شيئاً من الوقت ليتلين على مسامعهم حكايات ماقبل النوم .. . وربما نامت ( أعينهن ) وعيون الصغار لم تنم بعد .. . ( فالمسكينات ) معلمات اغتراب .. عليهن أن ينهضن من فراشهن منتصف الليل وأن يغادرن بيوتهن قبل الثانية فجراً . فلا وقت للسهر ولا لحكايات الصغار كي يناموا .. ولا لإيقاظ الصغار على دفء حنان الأمومة وعلى الإبتسامات الصافية وإفطار الصباح والتوديع على الأبواب. ... العاملة المنزلية هي من يقوم بترتيب ملابسهم وإعطائهم ( الساندوتش ) وربما دفعتهم بأرجلها حتى ( يذلفون ) عن الباب !!. ** دعونا من الصغار .. نواصل حكايتهن هن .. يغادرن البيوت الساعة الثانية فجراً .. على الباب تقف حافلة كدجاجة بأربعة أرجل .. لا مقاعد .. لا منافذ للشمس .. مجرد مكان أشبه بقفص حديدي يجب أن يستوعب أكبر كمية من معلمات الإغتراب !!. ** وتبدأ رحلة العذاب ,, أكثر من خمسمائة كيلو متر تقطعها ( المسكينات ) يومياً ذهاباَ وإياباً .. تخيلوا خمسمائة كيلو داخل قفص مغلق ؟؟!! . أعتى الرجال لايقوى على هذا ؟؟!!. وعندما أقول ( تخيلوا ) فإني أريد استدعاء خيالاتكم إلى حيث تكون القدرة والضعف والتعب والمخاطر !!. ** في مطلع الأسبوع الماضي أفقنا على فاجعة ( لمسكينات ) الإغتراب على طريق مكة الليث .. حادث مروري مروُع ذهب ضحيته معلمتان وأصيبت أربع !. الحادث كان مؤلماً بكل ماحواه من صور مأساوية .. القفص يتحول إلى مستنقع للموت ... أكوام من اللحم والدم والهلع وصرخات الإستنجاد ونزعات الموت والحقائب والأوراق والجوالات والعباءات .. وكل شيء اختلط ببعضه ليحول المكان إلى مشهد مروع !! ** في عمق تفاصيل الموت والدم جاء صوت احدى المرعوبات: ... أرجوكم لا ترقصوا فوق أشلائنا ولا تلطخوا أقدامكم بدمائنا النازفة على الإزفلت .. اكتبوا ماشئتم .. وثرثروا بكل شيء .. حتى عن تلك التفاصيل الصغيرة في مشهد موتنا وألمنا وعذاباتنا .. والتقطوا الصور الأكثر شناعة لمأساتنا .. ثم اذهبوا حيث شئتم واتركونا نعود في صبيحة الغد إلى مواجهة الخوف والمعاناة من جديد !! . ** ثم واصلت بصوت مبحوح : ... هذا ليس الحادث الأول وهذا ليس الموت الأول ... وهذا الإستشراب للإسفلت من دمائنا ليس الأول كذلك!!. استنطقوا الأزمنة والأمكنة تجدوا على مدى السنين سجلا حافلا من الحوادث والإصابات وجثث الموتى .. كل حادث نفقد أحدنا ونبكي .. وأنتم تحتفلون بحوادث الدم .. ثم ماذا ؟؟!!. ** هي أيام وينتهي كل شيء لنلتقي على موعد آخر لفاجعة جديدة !!. فقط أرجوكم أن تشكروا بامتنان لنا ( التعليم ) الذي أزعجته مواجعنا فاستنهض كافة قدراته لعلاج الأزمة وكان استئجار استراحة على الطريق حلا رائعا لحقن الدم النازف !!. ** غاب صوت الرعب وأطل صوت الذرائع الذي يقول بأن أحداً لم يضرب على يد أحد ليأتي إلى وظيفة . .. أما صوت الحقيقة فيظل يقرع كل الأجراس للبحث عن مخارج .. فمهما كان هؤلاء بناتنا !!