الدواوين العربية قبل ظهور التقنية لم تكن تعنى بالعنوان كثيرًا، وكثير من القصائد العربية كانت تسمى بشطر بيت أو قافيته، أما الدواوين المعاصرة فقد أصبح من التقاليد الثابتة في التجربة أن يقوم الشاعر باختيار عنوان يجهد في اختياره ليكون معبّرًا عن كلية العمل واختزالاً واعيًا له، ثم ظهر بفعل التقنية الحديثة مقاربات لافتة بين الفنون المختلفة تسهم في إعطاء العتبات النصية قيمة إضافية في العمل الإبداعي المعاصر، حيث تسهم تقنيات مثل تقنية النسخ الملون أو المسح الضوئي (الاسكنر) ومن بعد تقنية المعالجة (الفوتوشوب) التي ظهرت مع الحاسوب، تسهم وغيرها في تدعيم صفحة الغلاف بإضافة صورة قد تكون تشكيلية حينًا أو فوتوغرافية أخرى، وتختار بعناية لتقدم مع الكلمة بعدًا مهما للعتبة النصية الأولى، وتشكل مع كلمة العنوان مدخلاً شعريًا مهما يجعل لتلك العتبات قيمة في ذاتها وانسحابات على النص يصعب تجاوزها. ويؤكد المشتغلون على تصميم تلك العتبات على دور التقنية المعاصرة التي قاربت بين الكلمة والصورة يقول الناقد والفنان التشكيلي علي مرزوق: «تتعدد الاتجاهات والتقنيات التي تستخدم في تصميم أغلفة الكتب والمجلات أو المنشورات الأخرى، ومع مرور الزمن تغيرت هذه الاتجاهات والتقنيات وتطورت حتى أن هناك تصاميم باتت تصدم المتلقي لما فيها من جرأة وأفكار غريبة. ففي البداية كانت أغلفة الكتب تصمم بواسطة الرسوم اليدوية البسيطة والألوان البدائية كما هو مشاهد في الكتب الإسلامية القديمة، وبعد أن اخترع العالم الألماني فريدريك سكوت الكاميرا عام 1850 ميلادية استخدمت الصور الضوئية في تصميم كثير من الكتب... وقد يستعين بعض المصممين ببعض اللوحات التشكيلية المعبرة عن مضمون الكتاب، فيستعين بلوحات سريالية أو تعبيرية للكتب الأدبية مثلاً، وباللوحات الرمزية للكتب العلمية، وهكذا... وبعد الانتهاء من التصميم يقوم بتصويره بواسطة الماسح الضوئي Scan واستخدام الحاسب في كتابة البيانات الأخرى، ومن ثم إرساله إلى المطبعة لتنفيذه. وفي الوقت الحاضر وما صاحبه من تطور تقني وبرامج حاسوبية متنوعة مثل: برنامج معالجة الصور Photo Shop أو برنامج الرسم والتصميم الكورل درو Corel Draw أو برنامج الستريتر - Adobe Illustrator - وغيرها من البرامج. هذه البرامج غيرت تمامًا مفهوم تصاميم أغلفة الكتب (1). والرأي السابق يؤكد على دور التقنية الداعم للمعطيات النصية المعاصرة. وأود أن أؤكد هنا على أن الشاعر المعاصر مسؤول أدبيًا وحقوقيًا عن كل عمله، وأن الصورة التي توضع على الغلاف هي جزء من تكوين العمل (2)، وأن الشاعر يتحمل كافة تبعاته بأنه رضي بأن تصاحبه هذه الصورة أو تلك، وقد ذكرت هذا الرأي في بحث كنت قدمته لمؤتمر الأدباء السعوديين (3) إذ الشاعر يتحمل تبعات ما يلقى على نصه الشعري. وقد حاولت في هذه كتابي توظيف التقنية في الشعر السعودي الذي نشر العام الماضي أن أؤكد تلك المقاربة ودور الشاعر من خلال عدد من شهادات الشعراء المعاصرين الذين أثبتوا بما لا يدع الأمر مثار جدل أن الشاعر المعاصر كما يتولى نصه الشعري يتولى مع ذلك صناعة العنوان والغلاف والإشراف عليه - وأثبت بعضها هنا -، تقول مثلاً الشاعرة ثريا العريض: «أول ديوان شعري اتفقت مع النادي الأدبي على عموميات الغلاف ولكن تنفيذه جاء سيئًا جدًّا ولم يعجبني. الديوان الثاني والثالث اقترح عليَّ الأصدقاء أن تقوم فنانة أو فنان بتصميم الغلاف، وتواصلت مع بعض الأسماء.. بعد أن وجدت أن التصاميم المقدمة من فنانين معرفين لم تعجبني أيضًا - صممت الغلاف واللوحات الداخلية بنفسي لأنني أرسم أيضًا وارتحت بعدها وأظن أنني سأصمم أغلفة الكتب والدواوين القادمة - أعتقد أن تصميم الغلاف واللوحات يجب أن يوصل رسالة عنوان الكتاب ومحتواه بتكثيف فني واضح. والرأي السابق يوضح دور الشاعرة في متابعة تنفيذ تصميم الغلاف في كل دواوين الشاعرة وعنايتها البالغة بذلك. وفي رأي شبه مقارب يقول الشاعر محمد خضر عن موقفه من أغلفة دواوينه: «اخترت غلاف (المشي بنصف سعادة) بعد أن رأيت مجموعة من الأعمال لدى مصمم العمل.. كان مخاطرًا بعض الشيء لكني أحببت أن يكون الغلاف هناك هو عمل آخر يشارك مضمون الديوان ويمكن أن ينظر إليه الآن كعمل منفصل عن مضمون دفتي الكتاب.. هذا ما حدث أيضًا مع (صندوق أقل من الضياع) قمت باختيار اللوحة التي أبدعها الفنان أحمد ماطر للعمل، أحببت أن أعرض من خلال مجموعتي الشعرية عملاً فنيًا ليس لمجرد أنه غلاف ولكن جميل أن يكون عمل فني يشاركك شعرك وكتابتك الشعرية الآن ودوما كنت أقول: إنه ليس مجرد غلاف إنه جزء من معرض الفنان يتنقل معي نموذج منه... وغلاف يعبر ليس عن مضمون الديوان بل عن المرحلة الفنية الموازية لما أقوم بكتابته.. ويعبر الشاعر حسن الزهراني عن شيء من ذلك في قوله:»أما ما يخص دواويني فأنا ممن يتعبه اختيار الغلاف كثيرًا. أطرح عدة صور وأبقى في حيرة ثم ترسو سفينة اختياري على ما رأيت في أغلفة دواويني. ثم أنني بعد خروج الديوان أعود وألوم نفسي على سوء اختياري، فأنا لا أخفيك لست راضيًا عن أي غلاف منها... أما الشاعر محسن السهيمي صاحب ديوان (وجه الصباح)، الذي يعد من الإصدارات المتأخرة، فيوضح قصته في غلاف ديوانه بقوله: «نعم لي علاقة بغلاف ديواني؛ إذ كنت على اتصال بنادي الطائف الأدبي الثقافي – الذي خرج الديوان عن طريقه - ورغبتُ إليهم أن أتولى اختيار الغلاف، فكانت الموافقة، حيث دلوني على دار النشر في جدة والتقيتُ بالمشرف على الدار وتم التفاهم حول أمور الطباعة (كافة) ومنها حرية اختيار الغلاف وغيره.. بالنسبة لصورة الغلاف، فالنادي مشكورًا ترك لي حرية اختيارها، حيث طلبت من دار النشر تزويدي بعدد من «اللوحات اللونية» ولم أرغب في الفوتوغرافية لأنني أراها جامدة غير معبرة. أرى صورة ديواني معبرة – إلى حدٍّ بعيد – عن العنوان الكتابي «وجه الصباح» حيث لم أقصد به (الوجهَ الحسي) للصباح المتمثل في الشمس وشعاعها وانحسار الظلام وتمدد الضياء، إنما قصدت (ما يمثله الصباح من سرور وحبور وبدايات حالمة وأمل جديد) وهذا ينطبق أيضًا على الوجه المشرق لانفراج أي أزمة أو قضية أو مشكلة. ولعل قارئ الديوان يلحظ ورود مفردات الصباح، الصبح، الضياء، النور، فلق الدجى، الفجر في محتوى الديوان والتي عبر عنها العنوان الكتابي وجسدتها صورة الغلاف. ومع هذا فقد لا ينجح الرسام في التعبير عن العنوان من خلال ريشته، وقد يكون هناك ظروف خارجة عن إرادة المبدع والدار تحول دون اختيار صورة مناسبة للعنوان الكتابي. ولعل فيما سبق ما يؤكد على دور الشعراء الرئيس في صنعة الغلاف الذي يمثل عتبة رئيسة يعي الشعراء المعاصرون أهميتها البالغة، وهم يقومون بأنفسهم على متابعة تفاصيلها. ولا شك بعد هذا أن للتقنية أثرها في كل ذلك، بدءًا من دورها في كتابة النص على أجهزة الحاسوب ودور مثل هذه الكتابة في صناعة النص كما هو معلوم، وصولاً إلى الغلاف الذي أثبتنا سابقا دور التقنية فيه وفي تنوع تشكيله. ولا شك أن للتقنية دورها الذي لا يمكن إنكاره في دعم صناعة العنوان، إذ قد تكون الصورة التي تصاحب الديوان فوتوغرافية وقد تكون تشكيلية معالجة بالتقنية على غلاف الديوان الأمامي أو الختامي، وقد تكون صورة شخصية ضوئية، وقد تكون غير ذلك، لكننا نؤكد هنا أن التقنية هي العامل الأهم في شيوع هذه الظاهرة التي لم يعد المتلقي يفتقدها في أي عمل شعري معاصر. وهو تعالق بين الصورة كمنتج فني والنص الشعري من جهة، وبين العنوان كمفردة وبين الصورة والنص من جهة أخرى؛ فالعنوان المعاصر للديوان هو الشفرة الأولى التي تواجه المتلقي وتسهم التقنية في تعزيز أدائيته. ويجب أن يعي كل شاعر مسؤوليته الأدبية ودوره في هذه التعالق بين التقنية والشاعر في صناعة أخطر العتبات التي تواجه المتلقي وترتبط ببنيات الحالة الشعرية المعاصرة. هوامش: (1) الرأي للفنان والناقد التشكيلي علي مرزوق في تواصل بالإيميل. (2) جرى العرف أن العمل المنشور يعرض على الأديب ليقوم بمراجعته في شكله النهائي قبل نشره، ويشمل ذلك ما يوضع من رسوم تشكيلية أو صور فوتوغرافية مصاحبة للعمل. (3) عقد المؤتمر في الرياض في الفترة من 27-30/12/1430ه-14-17/12/2009 . وقدم الباحث بحثًا بعنوان: (تطور تقنيات الصورة في الشعر السعودي المعاصر) نشر ضمن بحوث المؤتمر المحكمة.