يعمد الشاعر هنا، إلى عمل يقوم على تقنيات أكثر تعقيدًا في صناعة عتبة العنوان، فيأتي عمله في عنوان ذي رسالة مغلقة إلى حدٍ ما، تحتاج من المتلقي إلى جهد لتمليها وقراءتها والمقاربة بينها وبين العنوان الكتابي من جهة، وبينها وبين النص الشعري من جهة أخرى، ويحضر هذا اللون من العتبات كثيرًا عند شعراء التجديد في القصيدة الحديثة في الشعر السعودي. وهي عتبات أكثر نضجًا، والعمل الفني فيها أكثر تقنية، وتغيب فيها الدلالة أحيانًا بإزاء بنية تكوينية للعنوان أكثر تماسكًا والتئامًا. الشاعر معيض سابي، وهو يختار لوحة تجريدية للفنانة التشكيلية «سهير السلمان»، موظفًا التقنية في تجاذبات عنوانه الكتابي «أوجاع أنثى» مع تلك الرسمة التشكيلية على صفحة الغلاف الأولى (1). اللوحة التي اختارها الشاعر لتكون رفيقة مجموعه الشعري لوحة تجريدية غير واضحة المعالم، ولعل ذلك التعامي في وعي الدلالة يفتح أفقًا أوسع لاحتمالات ممكنة. ويبدو أن ذلك كان هدفًا من أهداف الشاعر على الرغم من وضوح وتقريرية العنوان في ذاته «أوجاع أنثى»، وهو ما يعطي صفحة العنوان بعدًا فاعلاً، ويؤكد قدرة التقنية المعاصرة على التكاتف في صناعة المنتج النصي وبالتحديد في عتباته الأولى، تلك العتبات التي تعد من أخطر ما في الأعمال الشعرية المعاصرة؛ بأنها تواجه وعي المتلقي من أول الأمر، وتكشف عن أبعاد رؤية الشاعر وتوجهه. وعنوان الشاعر الكتابي الذي اختاره لمجموعه الشعري هو عنوان نص أدبي آثر أن يبقيه في داخل الديوان، يقول في ذلك النص: أتهجرني ويلسعني الخصام أتفعلها وأنت المستهام أترضى أن أكون بغير مأوى يغالبني ويصرعني الهيام أنا لولاك ما راقصت ظلي ولا فتنت بعينيّ الأنام أنا في سالف الأيام حزن وروح كل ما فيها حطام أناجي الطيف أرجو منك حرفًا يعانقني ويسترنا الظلام أنا يا شاعري أوجاع أنثى تلاشت حينما دب الغرام (2) نلاحظ أن الشاعر قد اختار عنوان القصيدة من خلال شطر بيته الأخير، وهو اختيار تقليدي بالطبع يذكرنا بالعناوين التي وضعها القدماء للقصائد حيث تسمى القصيدة بمطلعها أو بجزء من القصيدة أو بقافيتها. وهو اختيار يتضح منه أن تلك القصيدة في ذاتها أثيرة إلى نفس الشاعر، في حين أن الدلالات في الديوان تذهب إلى أبعد من أوجاع أنثى. ولا نجد في غلافه الأخير غناء أو عناء، فهو غلاف اعتمد فيه على صورة ضوئية (فوتوغرافية) شخصية مع سيرة ذاتية للشاعر، وهنا نستطيع أن نقول إن الصورة التشكيلية التي اختارها الشاعر قد كسبت رهان التميز في العتبة النصية لهذا الديوان. أما في نموذج الشاعر عبدالرحمن سابي «الصهيل نحو الدائرة»، فنرى الشاعر يتحرك بازدواجية الصراع التي تبدأ من العنوان؛ فالصهيل مفردة تتحرك في إطار منفتح، في حين أن الشاعر يحجم هذا الصهيل باتجاه الدائرة، ويظهر من الديوان أن الدائرة رمز لا يبعد عن المرأة وتداعياتها؛ فالمرأة تشكل مفردة طاغية في الديوان، وقد استعان على رؤيته بلوحة تعبيرية لأنثى، إذ هي للفنانة فوزية عبداللطيف، وتظهر المرأة في اللوحة بشكل يوحي بقصدية الاختيار للصورة ومقاربتها لرؤية العنوان، كما تحضر الأنثى أيضًا في الإهداء. والأنثى في الديوان عمومًا تشكّل بتداعياتها المتعددة النقطة المحورية الأهم التي يدور حولها صهيل الديوان. أما الغلاف الخارجي فقد أدت فيه التقنية دورًا فنيًا بسيطًا اتّكأ فيه بالدرجة الأولى على تقنية (الفوتوشوب) بشكل أولى. والذي يهم هنا أن نفصل في انسحابات صهيل العنوان على معطيات الديوان وعلى بنيات النص؛ إذ يوظف مفردة الصهيل في ارتباطات مختلفة منها ما هو سياسي، كقوله: فبغداد عاد إليها التتر فلسطين باعت صهيل الحجر فأين المفر؟ وفي الأمسيات تهان البسوس وتغدو الرجولة في شرب ماء (3) ويظهر من هذا النموذج ما أكدناه سابقًا عن رمزية العنوان واقترابها من المرأة، فالشاعر يفلسف حالة الغضب وحالة الصهيل الغاضب الذي يبهت على صدور النساء، حتى ولو كان الأمر يمسّ قضايا العرب المصيرية، بما يوحي بالحالة الرمزية التي تفتق العنوان إلى تشظياته الواعية. وهو يكرر ذات الفكرة في نص آخر يربط فيه بوضوح بين الصهيل والمرأة في ثنائية متضادة، يقول: نودع كل أردية الشتاء كل المراعي والحقول وصهيل آهات النساء لننام في جوف السماء (4) ونرى الصهيل يتكرر معه كمفردة أساس في نص جعل عنوانه «المرأة الهلامية»، وفيها يرى أن الصهيل يموت في حجره مع تلك المرأة: حطام أنت لا أكثر وشيء من بقايا الأمس صهيل مات في حجري نهار شمسه وجهي (5) ويختم هذا الصهيل باتجاه الدائرة الرمز بقصيدة تفصح عن أسرار الديوان والعنوان في نص جعل عنوانه «اسأليني»، يقول فيه: اسأليني من أكون فأنا أهوى النساء إن سألن أو تمردن أو تمردن وكن بعض همي بعض أوراقي اللواتي خلتها ترسم ذاتي (6) تثبت النصوص السابقة أن هناك تلاقيًا قصده الشاعر منذ العتبة النصية الأولى في الديوان بين الصهيل الذي يفترض أن يذهب في آفاق بعيدة، لكن الشاعر يحجم هذا الصهيل باتجاه (المرأة / الدائرة) في كلية الديوان؛ إذ يمارس العنوان فعلاً اختزاليًا تحضر فيه المرأة بشكل لافت إنْ في اللوحة التشكيلية التي اختارها لعنوانه وإنْ في بنية النص التي كشفت شيئا من بوح العنوان الكتابي «الصهيل نحو الدائرة». هوامش: (1) انظر مجموعه الشعري: أوجاع أنثى، نادي الباحة، الطبعة الأولى 1427-2006، صفحة الغلاف الأولى. (2) عبدالرحمن سابي، أوجاع أنثى ، ص 41. (3) عبدالرحمن سابي، الصهيل نحو الدائرة، دار البلاد للطباعة، جدة، ص 22. (4) الصهيل نحو الدائرة، ص 19. (5) عبدالرحمن سابي، الصهيل نحو الدائرة ، ص 75. (6) عبدالرحمن سابي، الصهيل نحو الدائرة، ص 76. (*) أكاديمي. جامعة الملك خالد [email protected]