عندما دعتني إذاعة «البرنامج الثاني».. لتقديم حلقات مسجلة بصوتي عن جدة وحياتها في شهر رمضان من عام 2006م.. بعد تلك الأحاديث العشرة التي قدمتها (مثالثة) مع كل من الزميلين والصديقين: الدكتور بكر باقادر، والمرحوم الأستاذ محمد صادق دياب قبل عام أو عامين.. ثم طلبت مني أن أقدم حلقة إضافية عن ليلة العيد في جدة، وقد فعلت ذلك رغم زحمة العيد.. والاستعداد له. لقد رحبت ب «الدعوة» وإن جاءت متأخرة.. في العشر الأواخر من شعبان، دون أن أعرف أو أسأل كم سأتقاضى عن الحلقة الواحدة، أو الثلاثين حلقة مجتمعة، وكان (شرطي) الوحيد هو عدم حذف أي مسمع من تلك الأحاديث.. رغم المعاملة الخاصة التي يعاملني بها مسؤولو إذاعة البرنامج الثاني من مديرها العام آنذاك الأستاذ بكر باخيضر أو رئيسة البرنامج الثاني الأستاذة دلال عزيز ضياء إلى إذاعيها الأشهر الأستاذ عدنان صعيدي وإداريها البارز الأستاذ عدنان باعبدالله. إلا أن شرطي.. كان هدفه تأكيد (الضمان) بعدم المساس بأي مسمع من مسامع تلك الأحاديث، خاصة وأن الأستاذة دلال ضياء كانت قد اشتكت إليّ من معاناتها عند إجازة حلقة أدبية كنت كتبتها عن الشاعر اللبناني الكبير (الأخطل الصغير) حيث استشهدت فيها بعدد من عيون قصائده، فكان لابد وأن يكون من بينها قصيدته الأشهر والأجمل (اسقنيها) التي غنتها الفنانة أسمهان، والتي يقول مطلعها: اسقنيها بأبي أنت وأمي لا لتجلو الهم عني.. أنت همي .. إذ كانت وربما لا تزال تغشى (مراقبوها) حالة من حالات البابوية.. يصبحون معها (بابويون) أكثر من (البابا)!! عندما قبلت الإذاعة شرطي.. كان عليّ أن أبدأ الكتابة وتسجيل الحلقات الثلاث أو أربع الأولى خلال ما تبقى من أيام شهر شعبان، وكان عليّ قبل ذلك أن أسأل نفسي: تُرى ما الذي يمكن أن أقدمه عن (جدة) وعلى مدى ثلاثين يومًا.. بعد أن قلت الذي قلته طوال تلك الأحد عشر حلقة السابقة.. التي لم يمض عليها سوى عام.. حتى تُنسى. نعم كتبت عن جدة وحياتها وأحيائها كثيرًا من المقالات من قبل.. لعل من أبرزها مقالي: (حبيبتي جدة) و(جدة المستقبل) والعدد الخاص الذي أصدرته عن جدة في مطلع القرن الخامس عشر إبان رئاستي لتحرير (مجلة اقرأ)، والباب الأول من كتابي (بعض الأيام.. بعض الليالي)، إلا أنه ما يزال ينتابني شعور بأنني لم أكتب عنها ذلك الذي تستحقه.. وتستدعيه محبتي لها ولأهلها ومن سكنوها أو من مروا بها. شيء كذلك الذي تحدث عنه الكاتب الفرنسي الأشهر جان بول سارتر - مع الفارق - في كتابه (الكلمات).. عندما تحدث عن أولئك الذين كانوا ينتظرون منه أن يكتب شيئًا يقرأونه له، فلم يفعل حتى بلغ الخامسة والعشرين.. وهو يتخيلهم يتهامسون عليه (إن هذا الرجل يتباطأ، إنه يُطعم من خمسة وعشرين عامًا دون أن يفعل شيئًا! هل سنموت دون أن نقرأه) فلم يموتوا دون أن يقرأوه.. بل ويقرأوا أول وأعظم أعماله: رواية (الغثيان).. بعد خمس سنوات. * * * كنت محتشدًا دون شك.. بالأفكار والمشاعر والعواطف نحو «جدة» وأهلها ورواشينها ومقاعدها ودواوينها.. ورطوبة مساءاتها.. وندى صباحاتها، ولكن من أين تكون البداية لهذا العمل الإذاعي.. ساعتها؟ لم يطل تأملي.. إذ سرعان ما استرجعت زياراتي الأسبوعية سيرًا على الأقدام برفقة والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناتها.. من (حارة البحر) إلى (حارة الشام).. من (مقافي) أي من الشوارع الصغيرة والدروب غير المأهولة بالكثير من المارة أو الباعة، فنبدأ رحلتنا من حوش النخلة، إلى (زاوية غلوم)، تاركين (النورية) على شمالنا وبيت عاشور الضخم والشهير على يميننا، فطلعة بازان (مسجد المعمار) وبيت الجمجوم الشاهق والفاره.. فزقاق (بير جوهر) فبرحة باديب وفرن عبدالعال إلى برحة باخشوين أو باصبرين فبيت قابل على شمالنا والرضوان على يميننا.. فزقاق بيت باعشن.. فالنزلة إلى (برحة العنتيبي) وعلى شمالنا بيت محمد ذاكر الذي كانت تسكنه عائلة الناظر المعروفة، إلى أن ننتهي عند زاوية (بير أبو عنية) وبيت الشيخ عبدالحميد عطية أمامنا، وإلى جوارنا بيت الشيخ صالح محمود تاجر المجوهرات الشهير.. هذه الصورة الأولى والتي لحقت بها عشرات الصور عن المكان فيما بعد.. كانت تشكل مع نهاية مرحلتي الإعدادية فالثانوية صورة تكاد تكون كاملة لجدة وبيوتها وحاراتها وأزقتها وبرحاتها وأسواقها ولأولئك الناس الذين كانوا يعيشون فوقها وما بينها.. وقد تشابكت بيني وبين معظمهم علاقات مباشرة وأخرى غير مباشرة بأسبابها المختلفة. فقلت ولِمَ لا أسترجع صورة ذلك الغلام الذي أصبح صبيًا ففتى من فتيان جدة.. وهو يمر بحاراتها.. وأسواقها وبرحاتها وأزقتها، ويتأمل بيوتها ورواشينها وشرفاتها.. ويعشق برحاتها ويعانق مآذنها.. وأن أكتب كل ذلك الذي عشته في سنوات الخمسينات إلى أوائل الستينات من سنوات دراستي الجامعية بمداد من الحب والحميمية والصدق ل «جدة» وأهلها، فكان هذا الذي كتبته وسمعه بعض الناس.. ليتحول في النهاية إلى هذا الكتاب بعد أن أخذ عنوانه الجديد (تاريخ ما لم يؤرخ - جدة: الإنسان والمكان). * * * لم أكن عند كتابة تلك الأحاديث.. بحاجة إلى قولة الفيلسوف اليوناني (أرسطو) في توصيفه ل (الشجاعة) عندما قال ب (إنها الوسط الذهبي بين رذيلتي التهور والجبن)!! فليس في نصها من المحاذير.. ما يستوجب القلق منه.. إلا فيما ندر، كما أن وساوسي التي اعتدتها واعتادتني.. لم تجد لها أرضًا تنبني عليها، إذا كانت هواتف بعض المستمعين تلاحقني فور انتهاء إذاعة الحلقة بالشكر والتقدير.. حينًا، وب «الأسئلة» حينًا آخر عن تلك الأمكنة.. وهو ما قدم لي أول إجازة شعبية لنص تلك الأحاديث، على أن اللافت من بين هؤلاء.. كانوا أربعة: الأول الأخ إبراهيم السيالي مسجل الحلقات قبيل إذاعتها.. الذي أحضر في حقيبته ليلة تسجيل الحلقة الأخيرة (بوكيه ورد) يساوي نصف طوله.. تقديرًا وإعجابًا بما كان يسمعه ويسجله، وكان الثاني أخي وصديقي الأستاذ سامي خميس الذي طلب تحويلها إلى نص مكتوب.. لينشرها في مجلات جدة التي ترأس تحريرها وآخرها (رواشين جدة) التي ماتزال تصدر بجهوده وإصراره.. وعندما انتهى من نشر حلقاتها، كان يطالبني بحلقات جديدة.. فكان اعتذاري له بأنني لم أكن لأؤلف.. ولكنني كتبت ما شاهدته وعشته من ذاكرتي التي كانت تحتلها (جدة) بحاراتها وبرحاتها وأزقتها وشخوصها، وأنه لم يعد لديّ المزيد.. ومع ذلك أضفت له حلقتين.. استدراكًا لقصور ذاكرتي عن بعض الأمكنة والأسماء من الذين كانوا علامات في حياة جدة آنذاك، وكان رابعهم الابن عبدالإله الطيب.. الذي بعد أن أثنى على تلك الحلقات وقد كان يسمعها.. سألني: وهل يمكنك أن تكتب عن (مكة) وحاراتها؟ فابتسمت له سعيدًا باهتمامه.. إلا أنني قلت له.. إن نصًا كهذا أو شبيهًا به أو أفضل منه يمكن أن يكتبه أحد أبناء مكة ممن عاشوا بين النقا والشبيكة، وتسوقوا في (سوق الليل) والسوق الصغير وناموا في (الحجون) وسهروا في العزيزية، وليس لواحد مثلي ممن لم ير من مكة في تلك الأيام غير (باب دريبة)، وبيت الشيبي حيث كانت تزور جدتي العمودية صديقتها السيدة زينب شيبي.. فنبيت في بيتهم، لأستمع في الصباح إلى هديل الحمام من مآذن الحرم وفي الظهيرة إلى صوت الشيخ عبدالظاهر أبو السمح.. وهو يلقي خطبة الجمعة بصوته الرنان الذي لا علاقة له بصوت ابنه الصديق الأستاذ عبدالله أبو السمح، وممن لم يعرف من نهارات مكة.. غير ذلك النهار الذي أمضاه مع عمه (الشيخ إسماعيل مناع) وقد صحبه لمشاهدة إحدى مواجهات فريق (الاتحاد) مع شقيقه نادي (الوحدة).. وقد استعان الاتحاد بلاعب الهلال البحري النجم (مكي.. السوداني) أو الدكتور كما كان يسمونه لفرط مهاراته الكروية.. ففاجأة (فندق بنك مصر) في مكة بصوالينه وأثاثه، وفخامة مائدة طعامه.. وجمال ما قُدم له وسط دهشته البالغة، فقد كانت تلك أول مرة.. أرى فيها فندقًا على تلك الصورة من الفخامة، لكن كل هذا.. لا يكفي مادة لأحاديث، فضلًا عن أن يكون كافيًا لكتاب.. يقرأه ويحاسب على كل ما فيه قرَّاؤه. على أن الذي دفع بطبع الكتاب ونشره.. كانا اثنين: رجل الأعمال الأستاذ محمد يوسف محمد ناغي.. ورجل الأعمال الآخر و(عضو المجلس البلدي) الأستاذ محمد أبو داود.. فقد ألحَّا وأصرَّا فكان ما كان وكان هذا الكتاب الذي بين أيديكم. ثم لحقهما يوم التوقيع على النسخة الأولى منه.. ببيت الطيبات الصديق العزيز الدكتور عبدالله دحلان الذي أعلن عن رغبته في شراء ألف نسخة.. ليوزعها على طلبة جامعته الوليدة ال CBA، أما حفل التوقيع.. فقد تقاسم تكلفته (الناغي ف «الأبو داود».. ف (عبداللطيف باناجة). ثم لحق بالجميع مؤخرًا رجل الأعمال الشيخ عباس عبدالجواد.. عندما أعلمني وقد رآني في قراية شقيق الأستاذ رضا لاري (محمد لاري) بأنه سيفعل كما فعل الدكتور الدحلان.. ويشتري ألف نسخة. * * * وهكذا نجا الكتاب من وسوساتي بين النشر وعدمه، كما نجا كتابي السابق (بعض الأيام بعض الليالي).. عندما أقر توزيعه وفورًا الصديق العزيز والصحفي الموهوب الأستاذ قينان الغامدي وقد استعنت به ليحكم في أمر توزيع الكتاب من عدمه بعد أن قمت بطباعته، فقال بعد خمسة أيام من قراءته: «يوزع فورًا»..!! وقد كان. عندما صدر الكتاب (تاريخ ما لم يؤرخ) أهديته - من بين من أهديت - للصديق العزيز الأستاذ إياد مدني.. فقرأه في يوم وليلة كأخي الزميل الأستاذ خالد الحسيني.. ثم أرسل لي برسالة على (الجوال) يقول فيها: «كتابك فيه ريشة الفنان، ولوعة العاشق، وحبكة القاص، ومران الباحث».. وهو يدعوني للتفرغ لكتابة (الرواية).. فهي التي ستبقى.. بدلًا من استغراقي في الكتابة السياسية والدخول في طواحينها، وهو ما جعلني أتأمل قوله.. لأرى في نص (الكتاب) شَبَهٌ خلقي مع رواية الروائي الكبير الأستاذ نجيب محفوظ (المرايا)، التي تتحدث عن حي «الحلمية» وأهله.. بالقاهرة، كما كانت روايته الأخرى (الميرامار) تتحدث عن نزلاء كازينو وفندق الميرامار بالإسكندرية.. من الوزراء الوفديين وأضرابهم.. الذين جنبتهم أو عزلتهم ثورة يوليه. إلا أن النص بحاجة (والحالة هذه) إلى تعديل.. ولكن ولأن التعديل أصعب.. فعلي الانتظار حتى تولد روايتي الثانية بعد (على قمم الشقاء) التي كانت تتحدث عن قصة ذلك الشاب المسلم (ممدوح) وحبه وزواجه من حبيبته المسيحية (سميحة) بين شوارع وشواطئ الإسكندرية.. والتي لا أدري متى سيكون مولدها؟ * جدة 26/4/1433ه 19/3/2012م