عندما يصادفني متسوّل عند أعتاب مسجد أو متجر يثير امتعاضي ليس لأجل كراهة هذا المتسوّل بقدر ما هو اشمئزاز من ظاهرة ابتذال النفس الإنسانية لهذه الدرجة من الذل، ومن المتسبب في إراقة ماء وجوه المحتاجين بهذا الشكل أو ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود فئة ليست بالقلية من المحتالين ممن يستغلون عطف الأخيار، وفي المقابل وجود فئة ضربها الفقر بأشد سياطه حتى وصلت إلى هذه الدرجة من الذل والانكسار. إن التكافل الاجتماعي مطلب ديني يكاد يكون مما اتفقت عليه جميع الشرائع، وجاء الإسلام بتقنينه بشكل واضح ودقيق بحيث يحقق تكافلًا في فرص العيش الكريمة لكافة أفراد المجتمع، ولمحورية هذا التكافل في النظام الاجتماعي؛ كانت شريعة الزكاة وهي الركن الثالث من أركان الإسلام عُنيت بتنظيم المجتمع على أساس تكافل فرص العيش الكريمة لكافة طبقاته وذلك بمعالجة الفقر وإزالة الفوارق الاجتماعية في المجتمع الواحد أو الحدّ منها بقدر الإمكان، ولذلك لا نستغرب أن أبا بكر الصديق رضي الله سيّر الجيوش لمقاتلة مانعي الزكاة لما في تعطيل هذه الشعيرة من خلل ينال من تركيبة المجتمع. ولأجل معالجة ظاهرة الفقر فإن أي قرار يُتخذ للحدّ من هذه الظاهرة أو المشاركة في حل هذه المشكلة لا بد أن ينبع من دراسات تقوم بها الجهات المعنية بالدراسات والتخطيط، واتخاذ أي قرار لا يتكئ على مجموعة من البيانات والإحصاءات الدقيقة والتنبؤات المستقبلية المبنية على توقعات منطقيّة قد يكون قرارًا ارتجاليًا مصيره إلى الفشل أقرب منه إلى النجاح مثله مثل القرارات الناتجة عن ردة الفعل الآنية لبعض المواقف، وأهم إجراء تتخذه الجهات المعنية بالتخطيط والمعلومات ابتداءّ هو تحديد خط الفقر بكل دقّة بعيدًا عن المبالغة سواء بالإجحاف أو ضده، وبيان مستوى الدخل الأدنى الذي يُعدّ كل من نزل تحته فقيرًا، كما يتوجب على الجهات أيضًا بيان حدّ الكفاف وهو المستوى من العيش الذي يعيش فيه المرء مستورًا كعامة الناس، وعلى أساسه يُقرر الحد الأدنى من الأجور، مع الأخذ بعين الاعتبار مقدرات الدولة ومكتسباتها، فلا يصح علميًا قياس الفقر في بنغلادش أو الصومال على الفقر في السعودية أو دول الخليج مثلًا، وفي المقابل أيضًا فإن تعريف الفقر لا بد أن يُعاد النظر فيه بين فترة وأخرى بناء على المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية كزيادة متوسط عدد الأسرة، ونسبة ارتفاع الأسعار مقارنة بنسبة زيادة الدخل، وأيضًا ارتفاع نسبة الفئة المستهلكة مقارنة بانخفاض القدرة الشرائية للأسرة، وكثير من الدول المتقدمة يتم فيها تعديل خطّ الفقر كل عام أو عامين بناء على المتغيرات، وعلى ضوئه يتحدد الفقير المستحق للمساعدة الذي تتبناه المؤسسات الداعمة سواء كانت حكومية أو خيرية. أن أهم قضية ينبغي أن ينظر إليها أصحاب القرار في المؤسسات المعنية بالحدّ من ظاهرة الفقر؛ هي البحث عن مكمن الخطأ إدارة نظام الزكاة، حيث إن هذا النظام بحد ذاته كفيل بالقضاء على مشكلة الفقر نهائيًا بدون التدخل الحكومي المتمثل بالإعانات والهبات والمساعدات، هذا فضلًا عن أبواب الصدقة التي حثّ عليها الإسلام بل ورغب فيها والتي تساعد بدورها على إغناء المجتمع والحدّ من الفوارق الطبقيّة التي تنشأ مع تنامي الشريحة الفقيرة فيه، فعلى سبيل المثال تستطيع الجهات الرسمية بحسبة بسيطة حصر المبالغ المالية في الأرصدة النائمة الواجبة فيها الزكاة وكم تكفي زكاتها من فقير ليعيش حياة كريمة، وتستطيع الجهات الرسمية أيضًا التحقق من دفع الأموال الزكوية من المشاريع الضخمة التي يتحايل أصحابها في تضليل الجهات الرسمية في رؤوس أموالها أو المبالغ المستحقة دفعها، كل هذا وذاك يعطي الجهات المعنية ضخامة أموال الفقراء المحبوسة عند الأغنياء، ربما تتفاجأ هذه الجهات أن المال قد يكون أكثر من حاجة الفقراء وهو شيء متوقع، ولكن مع وجود هذه الأرصدة النائمة الضخمة وفي المقابل وجود شريحة لا يستهان بها من الفقراء يدل أن الخلل في أحد أمرين: إما في تأدية الزكاة، أو في طريقة توزيعها، وإذا تحقق هذان القيدان فسينعدم الفقر نهائيًا وهو ما تحقق لما فاض المال في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز وأدى الناس زكاة أموالهم بالطريقة الصحيحة، ولذلك فإن المقولة المشهورة أنه لا حل لمشكلة الفقر وأن الفقر مشكلة عالمية لا يمكن القضاء عليها؛ مقولة غير دقيقة، بشرط وجود إرادة صادقة في تطبيق نظام الزكاة وتنظيم طريقة توزيعها، لذلك فإن السؤال المحوري في هذا الموضوع ليس هل هناك فقر أو لا -وإن كان هذا السؤال مشروعًا- ولكن السؤال الأكثر أهمية ما هي الإجراءات التي تتبعها المؤسسات المعنية بإجراءات الزكاة سواء كانت تحصيلًا أو توزيعًا، سواء كانت هذه المؤسسات حكومية أو خيرية للحد من مشكلة الفقر أو على أقل تقدير للحدّ منه. ويبقى التحدي الآخر وهو كيفية توزيعها وفق طريقة علمية منظمة بحيث تستطيع هذه الجهات المعنية فرز الاحتياج الفعلي عن الاحتياج المضلل والمتحايل على أنظمة هذه المؤسسات الداعمة، وفي الوقت نفسه إقامة البرامج وأخذ الخبرات العالمية في إدارة أموال الزكاة وفق برامج لا تكفي في سدّ حاجة الفقير في اللحظة الآنية فحسب؛ بل في إغنائه على المستوى البعيد وفق برامج مدروسة تشرف عليها جهات ذات خبرة واسعة تنقل من خلاها المحتاج وصاحب العَوَز من ضيق الفقر وبؤسه إلى رحابة الغنى وسعته.