دعاني السفير الأمريكي في القاهرة الفريد اثرتون في ربيع عام 1983 وأربعة من الصحافيين المصريين إلى عشاء في منزله على شرف رئيس هيئة المعونة الأمريكية وقتها مايكل ستون، كانت واشنطن قد اعتمدت برنامجًا للمعونة لمصر قبل ذلك بعام واحد ضمن توابع توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في مارس عام 1979، يومها فاجأنا مايكل ستون مرتين، الأولى عندما طرح سؤال اللقاء متطلعًا بشغف إلى جواب، والثانية عندما استعرض مستوى إلمامه بمشكلات التنمية في مصر، كاشفًا عن معرفة «مزعجة» بأدق تفاصيل الوضع التنموي المصري، في قرى الصعيد، بدءًا بعدد الفصول الدراسية للبنات بالقرى المصرية، وليس انتهاءً بأطوال خطوط الصرف الصحي وعدد صنابير المياه «العامة» ببعض قرى نجع حمادي مثلًا. أما سؤال اللقاء الذي أبدى كل من مايكل ستون والسفير الفريد اثرتون شغفًا هائلًا بإجابة إعلاميين مصريين عنه، فكان كالتالي: قال مايكل ستون -وأنا أكتب مستدعيًا من الذاكرة-: ماذا يمكن أن تفعل الولاياتالمتحدة لتحصل على مكانة في قلوب المصريين مماثلة لتلك التي نالها السوفييت بالمساعدة في بناء السد العالي؟.. ثم أضاف: «لقد فعلنا الكثير لمصر، أقمنا محطات للكهرباء وأخرى لتكرير مياه الشرب، وساهمنا في إقامة العديد من المدارس والفصول الدراسية بالقرى والنجوع لنساعد المصريات على تلقي تعليم لائق، ومع ذلك فإن نظرة المصريين للولايات المتحدة لا تزال يملؤها الشك وتسيطر عليها الهواجس.. قولوا لنا بوضوح ما هو المشروع الأهم الذي يمكن أن تساهم فيه الولاياتالمتحدة ويسهم بدوره في إتاحة مكان لنا في قلوب المصريين؟!.. وراح الرجل يتفرس في الوجوه، بحثًا عن إجابة وترقبًا لرد، وجاءت الردود لتعكس دهشة بعض الحضور من طبيعة السؤال، ولتحمل في الوقت ذاته ما لم يروِ ظمأ مايكل ستون للمعرفة، فقد تحدّث البعض عن برنامج للغذاء يسهم في تحقيق درجة من الاكتفاء الذاتي لدى المصريين، واقترح آخر طريقًا بريًا سريعًا يربط شمال مصر عند الإسكندرية بجنوبها عند أسوان، فيما طالب آخرون وكنت بينهم، بجهد أمريكي لتحقيق سلام حقيقي في الشرق الأوسط، يعيد للشعب الفلسطيني حقه في أن يكون له وطن مثل سائر شعوب الأرض.. وأطرق الرجل وكأنما أصبناه بخيبة أمل، أو لعل لسان حاله كان يقول: «هؤلاء الناس لا شيء يرضيهم». تذكرت دعوة اثرتون، ومشكلة مايكل ستون، وأنا أتابع مؤخرًا، حديثًا تردَّد من واشنطن عن تلويح أمريكي بقطع المعونة الأمريكية عن مصر، إثر قيام السلطات المصرية بمداهمة بعض مكاتب منظمات حقوقية، ومنع تسعة عشر مواطنًا أمريكيًا من السفر بينهم ابن وزير النقل الأمريكي الحالي سام لحود، فقد استدعت الواقعة ذكريات السنين، واستدعت معها سؤالًا مشروعًا حول طبيعة المعونة الأمريكية وأسبابها، ومدى استفادة المصريين منها، وما إذا كانت بحق «معونة»، أم أنها ثمن لصفقة شملت التزامات أوفى بها المصريون على مدى عقود طويلة، وحصدت واشنطن ثمارها بثمن وصفه متحدث باسم البيت الأبيض ذات يوم بأنه «بخس»!. كان ذلك إبان رئاسة رونالد ريجان، حين طلب الرئيس المصري السابق مبارك أثناء زيارة سنوية للبيت الأبيض اعتاد أن يقوم بها في ربيع كل عام، أن يسمح ريجان لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، بالحصول على تأشيرة أمريكية لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.. في ختام زيارة الرئيس المصري السابق، وجه أحد الصحافيين المؤيدين لإسرائيل سؤالًا للمتحدث باسم البيت الأبيض، قائلًا: كيف تسمحون للرئيس المصري أن يتفوّه باسم «الإرهابي» عرفات في البيت الأبيض؟!.. رد المتحدث قائلًا: مبارك ليس رئيسًا لإحدى جمهوريات الموز.. وليس معقولًا أن نفتش في نوايا الرئيس المصري أو نطلب منه الاطلاع على كلمته قبل إلقائها.. فرد الصحافي: لكنكم تقدمون لمصر أكثر من ملياري دولار سنويًا كمعونة.. وهنا قال المتحدث الأمريكي: «لقد كانت خصومتنا لمصر تكلفنا أكثر من أربعين مليار دولار سنويًا». انتهى الكلام وبدأت لحظة المراجعة.. هل كان الرئيس المصري السابق يدرك أنه يقدم لواشنطن خدمات كانت ستكلفها أربعين مليار دولار كل عام مقابل مليارين فقط لا غير؟ وبعبارة أخرى هل كان الحكم في مصر مستوعبًا لحجمها، وقيمتها، ومكانتها، وتأثيرها الإقليمي والدولي؟. بلغة الأرقام التي كشف عنها المتحدث باسم البيت الأبيض، يبدو جليًا أن الحكم لم يكن مستوعبًا لا لقدر ولا لمقدار ولا لثقل ما يحكم، ولذلك فقد بدت مداعبة الرئيس السابق مبارك للكاتب الساخر محمود السعدني مُعبّرة حين سأله الأخير عما إذا كان الجلوس في مقعد رمسيس الثاني ومحمد علي وجمال عبدالناصر يمثِّل عبئًا على من يشغل المقعد؟! ساعتها قال مبارك للسعدني: «إذا كان الكرسي ده عاجبك خده معاك».!! نعود لحديث المعونة الأمريكية التي اشتعلت معركتها مبكرًا، إثر قيام السلطات المصرية تحت حكم المجلس العسكري، بمداهمة مكاتب منظمات حقوقية قالت إنها غير مرخصة، ومنعت على أثرها تسعة عشر أمريكيًا من السفر بعدما وجّهت لهم اتهامات بممارسة أنشطة غير مشروعة. وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون دعت إلى إطلاق سراح الأمريكيين والسماح لهم بالسفر مشيرة بصيغة التحذير إلى عواقب سلبية على العلاقات بين مصر وأمريكا، ونشط متشددون في الكونجرس الأمريكي مطالبين بقطع المعونات الأمريكية عن مصر، فيما كان وفد عسكري مصري رفيع يحط الرحال في واشنطن لمحادثات دورية روتينية (هكذا وصفتها القاهرة) حول التعاون العسكري بين البلدين. إجمالي ما تلقته مصر من معونات أمريكية منذ عام 1982 يبلغ طبقًا لتقديرات مصادر أمريكية أكثر من أربعة وخمسين مليار دولار بينها أربعة وعشرين مليارًا معونات اقتصادية والباقي مساعدات عسكرية، أما التوصيف الحقيقي لتلك المعونات فتعبر عنه دراسة أمريكية تقع في 40 صفحة قدمها مكتب «محاسبة الإنفاق الحكومي» التابع للكونجرس بشأن طبيعة وكيفية صرف مصر للمعونة، ونشرتها واشنطن ريبورت في مايو 2006، تقر الدراسة بأن المساعدات الأمريكية لمصر «تساعد في تعزيز الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة». وتكشف أن المصالح الأمريكية التي تم خدمتها نتيجة تقديم مساعدات لمصر شملت أوجهًا عديدة من بينها: - سماح مصر للطائرات العسكرية الأمريكية باستخدام الأجواء العسكرية المصرية. - منح تصريحات على وجه السرعة ل861 بارجة حربية أمريكية لعبور قناة السويس خلال الفترة من 2001 إلى 2005، وتوفير الحماية الأمنية اللازمة لعبور تلك البوارج. - قيام مصر بتدريب 250 عنصرًا في الشرطة العراقية، و25 دبلوماسيًا عراقيًا خلال عام 2004. - أقامت مصر مستشفى عسكريًا، وأرسلت أطباء إلى قاعدة باجرام العسكرية في أفغانستان بين عامي 2003 و2005، حيث تلقى أكثر من 100 ألف مصاب الرعاية الصحية. كذلك أوضح التقرير كيف تنفق المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر في شراء معدات عسكرية بالأرقام، حيث أكد أن الولاياتالمتحدة قدمت لمصر حوالى 7.3 مليار دولار بين عامي 1999 و2005 في إطار برنامج مساعدات التمويل العسكري الأجنبي، وأن مصر أنفقت خلال نفس الفترة حوالى نصف المبلغ، أي 3.8 مليار دولار لشراء معدات عسكرية ثقيلة. وبالطبع فإن قيمة المشتريات العسكرية ونوعها تحددها الجهة المانحة للمعونة، فيما تشير مصادر مطلعة إلى أن جانبا ليس باليسير من أموال «المعونة» كان يذهب إلى استشارات واستشاريين أمريكيين، لقاء تقديم نصائح أو نقل خبرات. المصريون الذين كان ينشد مايكل ستون ودهم بأية طريقة وعبر أي مشروع، مدركًا أن مشاعرهم ليست مع واشنطن، وأن ثمة كراهية في نفوسهم إزاء السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لا يبدون انزعاجًا بما تلوح به واشنطن بشأن المعونات، بل إن فيهم -رغم ضائقة مالية اشتدت بفعل توابع الثورة- من يرى المعونات قيدًا ينبغي كسره، وعبئًا يحسن التخفف منه. لكن التلويح الأمريكي بورقة المعونة الاقتصادية لمصر، ربما كان خطيئة قد يندم عليها الأمريكيون، فيما يرى المصريون أن من يحاول ابتزازهم في الظروف الراهنة قد يُسدِّد فاتورة باهظة جراء ذلك، ما أن تضع الأزمة الراهنة أوزارها ويقف المصريون على أقدامهم مجددًا. التلويح بورقة المعونات أتاح للجنرالات في المجلس العسكري الحاكم في مصر فرصة نادرة، إذ قاد إصرارهم على مواصلة محاكمة المتهمين الأمريكيين، إلى تعزيز شعبيتهم في صفوف البسطاء، الذين تدغدغ مشاعرهم مثل تلك المواقف، وبينما يشكو الليبراليون والقوميون المصريون جراء مداهمات العسكر لمكاتب المنظمات الحقوقية فإنهم لا يملكون القدرة على تحدي الشعور الشعبي العام بالرضا والزهو الوطني، جراء الرد على ضغوط واشنطن بالتحدي.