* وجدت من الضروري العودة إلى مقال الزميل الناقد علي الشّدوي والذي نشره بصحيفة الحياة «10 يناير، 2012» وهو كما يذكر العنوان «في نقد المبدعين والنقاد الذين يكتبون المقال الاجتماعي»، وكتبت تعليقًا متواضعًا عليه على صفحات هذا الملحق «24 صفر 1433ه». * كما كتب الناقد والمثقّف المعروف الدكتور سعد البازعي تعليقًا ضافيًا عليه في صحيفة الحياة «27 يناير 2012 / 23 صفر 1433ه» وكان عنوانه «إقتصاديات الكتابة بين مدينتين». * يقول الأستاذ الشّدوي في مقاله الذي يحاول فيه إيجاد مقارنة بين مدينة الأدب ومدينة الدين، واقترحتُ أن أصف الأخيرة بمدينة الفكر الديني، أن «الفترة بين 1953م، 1984م، فترة ركود على مستوى الثقافة المحلية، واستغلّت جماعة معينة غياب مثقف مدينة الأدب وملأت الفضاء العام بمثقف مدينة الدّين»، ويضيف محلّلاً: «إن تحليل الأسباب الثقافية والاجتماعية لما حدث - آنذاك - لم يقم به أحد بكيفية مرضية».. وهو يرمز في تحليله للحوادث الإرهابية المتشددة التي لم يسلم منها بيت الله - الآمن - في مستهلِّ القرن الحالي (1400ه /1980م)، وسبق أن ذكرت في مقالتي السابقة أنّه لم يكن في ذهن الأديب والمثقّف من جيل الروّاد في بلادنا ومن تبعهم، أيّ انشطار أو جفوة بين الثقافة الدينية والثقافة الأدبية، ولكن فترة الثمانينيّات الهجرية - الستينيّات الميلادية - شهدت ورود ثقافة دينية متشدّدة من بعض المجتمعات التي شهدت تسييسًا للدين؛ بل إنّ مجرد ذكر أسماء فاعلة في الثقافة العربية من أمثال طه حسين، وجبران خليل جبان، وعبّاس العقاد، وتوفيق الحكيم، يعتبر خروجًا على المألوف والسائد من ثقافة كان لها موقف سلبي من فنون الإبداع المختلفة مثل السّينما، والمسرح، والموسيقى، بل إنّ أحدهم حذّرني في تلك الحقبة من قراءة مؤلّفات الجاحظ لأنه مُعتزلي المذهب، ولم يسلم فضيلة الشيخ والفقيه يوسف القرضاوي من نقد لاذع عندما أصدر كتابه (الحلال والحرام في الإسلام)، لأنّه لم يرَ بأسًا في إباحة فنِّ التصوير، وأنّ كسوة الحيطان بالستائر ذات التصاوير هو يدخل - من وجهة نظره - في باب الكراهة التنزيهيّة، وليس في الآثار الواردة ما يقتضي التّحريم. * ولعلّ العبارة التي ضمّنها مقدّمة كتابه في طبعته الأولى 1380ه - 1960م، هذه العبارة تختصر موقف التيارات الدينية المتشدّدة من ضروب الإبداع والسلوك الإنساني.. يقول الشيخ القرضاوي: (فإذا سُئل أحدهم عن حكم الموسيقى أو الغناء أو الشطرنج أو تعليم المرأة أو إبداء وجهها وكفّيها أو نحو ذلك من المسائل، كان أقرب شيء إلى لسانه أو قلمه كلمة «حرام»، ونسي هذا الفريق أدب السلف الصّالح في هذا، حيث لم يكونوا يُطلقون الحرام إلا على ما عُلِم من تحريمه قطعًا، وما عدا ذلك قالوا فيه نَكْره، أو لا نحبُّ، أو نحو هذه العبارات. [انظر: الحلال والحرام في الإسلام، يوسف القرضاوي، ط 5 / 1389م - 1969م]. * وتشاء الأقدار أنّه بعد ما يقرب من أربعين عامًا على تدوينه لهذه العبارة الفقهيّة الهامّة، التي تدعو للبعد عن إطلاق الأحكام التحريمية الجاهزة، أن يكون الرجل - أي القرضاوي - ضمن وفد يسافر إلى أفغانستان محاولاً ثني حركة طالبان المتشدّدة عن هدم التماثيل التي كانت موجودة على مرِّ العصور الإسلاميّة، ومن بينها العصور التي شهد لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخير، وأنّ المسلمين حافظوا على معابد غير المسلمين، ويكفي أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمنَّ أهل إيليا أو القدس على دُوِر عبادتهم، حيث ابتدأ نصُّ العُهدة العمريّة المُدلّلة على مدى تسامح الإسلام إزاء الآخرين مقارنة بالديانات الأخرى: «هذا ما أعطى عبدالله «عمر» أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملّتها، أنّها لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم». [انظر: تاريخ فلسطين القديم، ظفر الإسلام خان، دار النّفائس ط 2، 1399ه - 1979م، ص 142-146»]. * نعم؛ لقد سيطر فكر مؤدلج ومنغلق على المجتمع العربي بكامله، ونحن جزء منه. وأضحى التشدّد وضيق الأفق بديلاً عن قيم الحبّ والتّسامح وسعة الأفق، التي عرفتها بلادنا منذ عصور الإسلام الأولى، وفي المقابل فإنّ الحركة الأدبية الحديثة، أو ما عرف باسم الحداثة استعار من حيث يدري أو لا يدري الأحادية التي وصم بها اتباع مدينة الفكر الديني المتشدّد، ولابد - آنذاك - لمن يريد دخول مدينة الأدب التي اعتبرها فردوسًا مفقودًا أن يتمثّل بمبادئ ورؤى منظريها - آنذاك - ، وإلا يُعتبر خارجًا عليها، جاحدًا بمنطلقاتها، وهذه الأحاديّة أو الاقصائيّة أو التشدّد الحداثي هو الذي أضعف الحركة من داخلها، وأدّى إلى تداعي بنيانها، وهذا يا عزيزي الشدوي سببًا من أسباب نزوح مثقفي مدينة الفكر الأدبي، وإن كان الزميل البازعي يرى أنّ العامل الاقتصادي له دور في تلك الهجرة.. ولا زال للحديث بقية وصلة، وثمة نقاش وحوار. (*)استاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز