يقال أن الدول المتقدمة لا يتولى الأطباء المتخصصون فيها إدارة المستشفيات، وإنما يتولاها المتخصصون في الإدارة الصحية وما في حكمها. لكننا نجد الوضع لدينا مغايرًا لما في تلك الدول؛ إذ نجد ما يمكن أن نُطلق عليه مسمى (هجرة) من قِبل بعض الأطباء المتخصصين، باتجاه المناصب الإدارية. هذه الحال لا تقتصر على الأطباء وحدهم بل تشمل شرائح أخرى كالمعلمين والمهندسين. قضية هجرة بعض الأطباء تجاه المناصب الإدارية وتركهم تخصصاتهم لا تزال تشغل بال الكثيرين الذين يرون في هذه الهجرة هدرًا للطاقات التي يمكن أن تسد النقص الكبير في الكوادر الطبية المدربة. فطالب الطب يمضي سنين لا تقل عن (7) سنوات، وقد تصل إلى (13) سنة للاستشاريين، ويُنفَق عليه من قِبَل الدولة الكثير من المال والجهد، وبعد تخرجه لا يمكث ممارسًا تخصصه إلا سنوات تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة ثم يهجره ليجلس على كرسي إدارة المستشفى أو إدارة الشؤون الصحية أو ما هو أعلى منها. ولذلك فإن وراء هذه الهجرة أسبابًا، لخص الدكتور (أيمن بدر كريم) بعضها في مقاله بصحيفة المدينة (28/11/2011م) ومنها: «قلَّة حظ الطبيب من الناحية العلمية والأكاديمية، وضعف قدراته المهنية، وتوفير المنصب الإداري فرصة لإرضاء حبِّه للظهور والتحكُّم والتسلُّط، إضافة إلى تمتُّعه بعلاقات اجتماعية، وبدلات إضافية مُغرية، زيادة على بدلات مهنته الطبية، بالرغم من عدم مزاولته لها وهو في منصبه الإداري». الحلقة الأضعف لدى الطبيب الإداري هي ما يتعلق بالنواحي المالية التي تمثل العمود الفقري للمنشآت الصحية، وهذه لا يتقنها -في العادة- إلا الإداريون، حيث تكثر العقود المتعلقة بترسية المشاريع وعقود النظافة والصيانة والتشغيل الذاتي والتغذية للمستشفيات. لذا فمهارة إدارة المهام المالية تعتبر من أشد ما يفتقر إليه الأطباء المتخصصون. مسألة أخرى تتمثل في قلة الأطباء السعوديين -فبحسب المدينة (16/12/2011م)- فقد بلغ عدد الأطباء في السعودية (65،619) طبيبًا، يشكل السعوديون منهم حوالي (13) ألفًا أي ما نسبته (21%) تقريبًا وذلك بحسب الكتاب الإحصائي السنوي لوزارة الصحة لعام 1431ه. ومع هذه النسبة المتدنية للأطباء السعوديين نجد الهجرة لا تزال مستمرة صوب المناصب الإدارية! وهنا يجب أن نأخذ في الحسبان أن الطبيب الإداري عندما لا ينجح في مهامه الإدارية –وهو المتوقع- فلن يجد غضاضة في الرجوع إلى عيادته لكن (بعد خراب مالطا) وحجته في ذلك أنه في الأصل (طبيب) فلا حرج عليه إن قصَّر أو لم ينجح في عمله الإداري. ومؤخرًا -بحسب المدينة (16/12/2011)- عُقد في الدمام ملتقًى لمتخصصين في الإدارة الصحية طالبوا فيه «بعودة الطبيب إلى عيادته وهو المكان الطبيعي، وترك الفرصة للمتخصصين في الإدارة الصحية، بعد أن ظل الأطباء عقودًا من الزمن يسيطرون على المناصب العليا في القطاعات الصحية المختلفة في المملكة» وأشاروا إلى أن «الأطباء دائمًا في صراع على الكرسي الأول، وعند وجودهم في الكرسي الأول يفكرون دائمًا في الأعلى». وقد أورد (محمد بن دايل) مساعد مدير إدارة طب الأسرة والمجتمع لمستشفى قوى الأمن بالرياض في مقاله المنشور بالرياض (2/5/1432ه) أمورًا تتعلق بالطبيب الإداري مقارنة بالإداري المتخصص، ومنها:» 1-عدم تأهيل الطبيب إداريًّا مما يفوِّت عليه علمًا ليس باليسير من تجارب ونظريات وتدريب في مجال الإدارة قد يصعب حصولها من الخبرة. 2-الطبيب علميًّا مؤهل لأخذ القرار فرديًّا (كالتحديد لطلب الأشعة وصرف الدواء وتحديد الجرعة) وهذا قد يؤثر على الأسلوب الإداري لدى الطبيب حيث يميل إلى الفردية في اتخاذ القرارات. 3- للدكتور غازي القصيبي (رحمة الله عليه) نظرية وهي إن إدارة الطبيب لوزارة الصحة أو لمنشأة طبية تجده مشدودًا لزملاء المهنة بحيث يصعب عليه التعامل معهم بحيادية أو موضوعية». وبناءً على ما سبق فالأمر يحتاج إلى وقفة جادة من قِبل المعنيين؛ للحد من هجرة الأطباء إلى المناصب الإدارية؛ لأن عمل الطبيب في عيادته أولى من جلوسه خلف مكتبه الإداري، فالمريض لا تعنيه إدارة المنشأة الطبية بقدر ما يعنيه أن يجد الطبيب الذي يشخّص له الداء ويصف له الدواء المناسب. ولذا فمن الحلول أن تعمد وزارة الصحة بالتعاون مع الخدمة المدنية لتوظيف خريجي كليات إدارة المستشفيات والإدارة الصحية، وأن تعمل الجامعات على التوسع في هذه الكليات، والتوسع في قبول الطلبة الراغبين فيها. من الحلول كذلك ألا يُفرَّغ الطبيب كليًّا لإدارة المنشأة بل يبقى على ارتباط بمهنته الأصلية، وألا تتم الاستعانة بأصحاب التخصصات النادرة والدقيقة. ومن الحلول إلغاء البدلات التي يتمتع بها (الطبيب الإداري) التي ذكرها الدكتور أيمن كريم. ونحن حينما نشدد على شريحة الأطباء فلأنهم عملة نادرة، ولأنهم كلَّفُوا الدولة الكثير من المال والجهد، فهم ليسوا كغيرهم تكلفةً وأثرًا، وإلا فالمتهافتون -غيرهم- على المناصب الإدارية كُثُر!!