قمة مجموعة العشرين تنطلق نحو تدشين تحالف عالمي لمكافحة الفقر والجوع    القيادة تهنئ ملك المغرب بذكرى استقلال بلاده    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    45.1% من سكان المملكة يعانون من زيادة الوزن    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    الله عليه أخضر عنيد    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربيع الرواية السعودية: جاذبية الخطاب الروائي ودلالاته
نشر في المدينة يوم 14 - 12 - 2011


-1-
ألقيت في رابطة الأدباء بعمّان ورقة بهذا العنوان منذ فترة (21-11-2011م) وهنا ألخص أبرز محاورها مبتدئا بالعنوان. اختيار مجاز الربيع للحديث عما حققته روايتنا الوطنية من إنجازات وما تبشر به من وعود ليس صدفة. فموسم الربيع أجمل فصول السنة وأكثرها عطاء وبهجة, وعيدا «النيروز» لدى جيراننا الفرس, و»شم النسيم» لدى إخواننا المصريين خير دليل على ما نقول.
لكن زمن التاريخ ليس أقل جمالا وكرما من زمن الطبيعة. فها هي وسائل الإعلام العالمية أصبحت تتحدث يوميا, وبمزيج من الدهشة والإعجاب والتعاطف غالبا, عن هذا «الربيع العربي» الذي أنعش الأمل في أمة أوشكت أن تموت يأسا. فمنذ قرابة العام ثارت هذه الشعوب الطيبة النبيلة على وضعيات الظلم والقهر والحرمان فأسقط بعضها أنظمة الاستبداد والفساد, وبعضها لا يزال يضحي يوميا بالشهداء لبلوغ الهدف ذاته, ولا بد أن الباقي في الطريق إننا إذن أمام فصل جديد من تاريخنا, وإن لم يكن أجمل الفصول فالمؤكد أنه سيكون أقلها سوءا.
وإليكم بعض المعطيات التي تبرر الحديث عن ربيع روايتنا الوطنية كخطاب ثقافي جديد وجذاب بأكثر من معنى.
قبل بضع سنوات اختيرت رواية ليلى الجهني «الفردوس اليباب» للنشر ضمن مشروع «كتاب في جريدة» الذي تشرف عليه اليونسكو, وطبعت منها آلاف النسخ بأهم لغات العالم. العام الماضي فازت رواية عبده خال «ترمي بشرر» بجائزة البوكر العربية المرموقة, وهذا العام فازت رواية الكاتبة رجاء عالم «طوق الحمام» بالجائزة ذاتها, وإن مناصفة مع المغربي محمد الأشعري.
قبيل أسابيع نالت رواية يوسف المحيميد الأولى «فخاخ الرائحة» جائزة إيطالية مرموقة, وقبلها نالت روايته الأخيرة «الحمام لا يطير في بريدة» جائزة أبي القاسم الشابي في تونس.
وهناك مؤشرات لا أقل دلالة من الجوائز. فرواية «شقة الحرية» لغازي القصيبي رحمه الله , شكلت مفاجأة كبيرة للقراء والنقاد في منطقة الخليج كلها حيث لم يتعود الناس أن تبادر شخصية ثقافية واجتماعية معروفة مرموقة فتكتب عن تجارب الذات الإنسانية بقدر وافر من الصدق والجرأة والعمق. رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع أثارت سجالا نقديا واسعا فور صدورها قبل سنوات, وترجمت إلى أكثر من لغة , وطبعاتها تتلاحق إلى اليوم لفرط رواجها محليا وعربيا, رغم إن الكاتبة فتاة لم تكن معروفة في الوسط الثقافي حينها. أما رواية عبدالله ثابت السيرية «الإرهابي رقم 20» فقد ظلت تحتل واجهة الكتب الأكثر مبيعا في العالم العربي لعدة أشهر, وترجمت هي أيضا إلى أكثر من لغة عالمية, لجرأتها على تشخيص مرحلة خطرة من تاريخنا راجت فيها خطابات التزمت والعنف وذهب كثيرون ضحايا لها. وسيطول الحديث لو تطرقنا لمظاهر التلقي الجيد الذي صادفته أعمال تركي الحمد وأميمة الخميس وبدرية البشر ومحمد حسن علوان ويحيى سبعي وعلي الشدوي وعبدالله بخيت وأمثالهم من الكتاب الذين خاضوا المغامرة وأنجزوا أعمالا تندرج ضمن ما يعرف في لغة النقد ب»المتوسط الجيد» وهو المستوى الذي تستقر فيه جل الروايات في كل أنحاء العالم.
كل هذه مؤشرات دالة على أن الرواية الحديثة في المملكة أصبحت في مقدمة الخطابات الأدبية التي تستقطب المزيد من الكتاب والقراء، حيث صدر خلال العقدين الأخيرين حوالي ألف عمل روائي. إننا أمام خطاب أدبي جذاب جماليا وجريء كل الجرأة في طرحه لقضايا الذات والمجتمع فكيف نعده بشارة بربيع ثقافي اجتماعي أغنى وأجمل؟!.
-2-
ازدهار الخطاب الثقافي الحديث هو البداية الحقيقية لكل التحولات الجدية في الوعي الذي ما إن يتغير حتى تدخل علاقات الواقع في سيرورات تطور يتولد بعضها من بعض. وأعني بالوعي هنا هذا النمط من الفكر الحديث الذي ما إن يكتسبه الإنسان ويتمثله حتى يدرك أن معاني حياته ووجوده لا تكتمل بدون تملّكه لشروط حريته وكرامته وكامل حقوقه المادية والرمزية. فالحياة بدون هذه الشروط تفقد معناها, بل قد تتحول إلى عبء ثقيل على كائن يرتد إلى مقام الحيوان الذي يأكل ويشرب ويتناسل من دون تطلعات إلى ما فوق ذلك من قيم ومثل ومبادئ.
من هنا ينبغي أن نتقصى آثار هذا الوعي في خطابنا الروائي الجديد وقد زعمت أنه في طليعة الخطابات الأدبية التي تترجم التحولات الثقافية وتشخص تطلعات البشر في أي مجتمع حديث.
ولكي تمضي المقاربة وفق منهج يضمن لها تماسكها ومنطقيتها سأركز على قضايا نحسب أن الروايات المتميزة شكلا ومحتوى عادة ما تشخصها وتعبر عنها بصيغ مختلفة ولهجات متنوعة. ولأنني قد كتبت عن الموضوع بتوسع في دراسات نقدية متخصصة فسأتوقف, وبشكل موجز,عند ثلاث منها أرى أنها ذات أهمية خاصة في هذا المقام وهي:
تصدع الحكايات التقليدية
بروز الذات الفردية المستقلة
وضوح الرؤية النقدية وتنوع مجالات التعبير عنها
1-2:
من المعروف جيدا اليوم أن الثقافات التقليدية كلها مؤسسة على حكايات كبرى يسلم بها الناس المنتمون إليها ويغذونها جيلا بعد جيل. وظيفة هذه الحكايات مزدوجة. فهي تقدم في المستوى النظري أو الرمزي تفسيرات للعالم وتأويلات للوجود تعطي للحياة والموت معنى وقيمة. وفي المستوى العملي لا شك أنها تعين على تنظيم علاقات الأفراد داخل الجماعة الإثنية أو الدينية الواحدة فتعزز وحدتها وتعلن تميزها عن غيرها من الجماعات القريبة والبعيدة.
وحين يستعمل الباحثون ما بعد البينيويون مفهوم «الحكاية» يحرصون على وظيفته الوصفية بحيث لا تتحول الاختلافات بين الخصوصيات الثقافية إلى مولد أو مبرر لنزعات التنابذ والتفاضل بين بشر يعودون إلى أصل واحد وينتظرهم المصير ذاته. فلكل شعب أو أمّه حكايات عريقة في الزمن متجذرة في المكان ظلت إلى وقت قريب في مرتبة الحقيقة التي لا مجال للشك فيها.
لكن العصر الحديث غير كل شيء في حياة الشعوب وثقافاتها. والسبب الذي لم يعد يجهله أحد هو هذه الثورات الفكرية والمعرفية المتعاقبة التي اختصرت المسافات واختزلت الفروق وسمحت لجماعات مختلفة أشد الاختلاف بأن تتجاور في بلد واحد, ولملايين البشر من مختلف القارات والبلدان بأن يلتقوا ويتحاوروا على مدار الساعة في فضاءات افتراضية متنوعة وتتكاثر بانتظام. فعلا, لقد تغير وجه العالم حتى أصبح قرية كونية صغيرة حقيقة ومجازا (ولقد استعمل خير الدين التونسي هذا المفهوم في السياق العربي منتصف القرن التاسع عشر, أي قبل ماكلوهان بزمن طويل). وعن هذه الوضعية التاريخية الجديدة تماما على البشرية نتج ما يعرف بتصدع الحكايات التقليدية وتراجع تأثيراتها على النخب المثقفة الحديثة في مختلف أنحاء العالم. فالمعلومات والأفكار والأخبار والصور تتدفق على الإنسان من كل الجهات وهو جالس أمام شاشة كبيرة أو صغيرة. نعم, لا شك أن المثقف الحديث يحترم تاريخه ويثمن تراثه وعادات مجتمعه وتقاليده, لكنه لا يبجلها أو يحتقر ما لدى الآخرين وإلا عد جاهلا منغلقا متعصبا ليس له من صفات المثقف غير أكثرها شكلية وسطحية.
فالوعي المشار إليه آنفا عادة ما يولد الاتساع في الأفق والتواضع في الخلق, ويدخل النسبية على الفكرة ووجهة النظر, ويثير لدى الذات المزيد من الفضول الدافع إلى اتصال عمليات البحث والاكتشاف. وبصيغة أخرى نقول إن تلك الثورات المعرفية المتلاحقة تحققت في المجالات العلمية التي تبحث في الطبيعة كما في الدراسات الإنسانية التي تبحث في الثقافة بأوسع معانيها. كل لغات العالم ومنظوماته الفكرية والجمالية خضعت للنظر والبحث المعمق الذي ساهم بشكل حاسم في تحويلها إلى منتجات بشرية دنيوية لا تتعالى على التحليل والنقد الذي يهدف إلى تفهمها وإبراز خصائصها ومدى مشاركتها في الحضارات الإنسانية المتعاقبة. بناء عليه فلا غرابة أن المثقف المحلي -الأفريقي أو العربي أو الهندي أو الصيني- لم يعد يتحرج من نقد تاريخه وثقافته. فهو يدرك قبل غيره أن نقد الذات بكل أشكاله يمثل الوظيفة الأسمى للوعي, وأن ممارسته بتعقل ودراية هو الطريق الوحيد لتنمية العناصر الإيجابية في الثقافة وتحييد العناصر السلبية قدر الممكن. فالمعرفة تعقلن الخطاب وترشّد الفعل مثلما أن الفنون الراقية ترهف المشاعر وتهذب الخلق. نعم, لقد تراجع منطق التبجيل لصالح منطق الاحترام الذي يسعى إلى فهم الماضي وحكاياته دونما توهم أنها الأنقى والأرقى.
فماذا عن الوضعية الثقافية التي يعيشها كتابنا ويحاورونها في كتاباتهم الروائية؟.
2-2:
نعلم جيدا أن أسلافنا أنجزوا ثقافة عريقة غنية انتشرت في مختلف القارات وأثرت بصيغ متنوعة في بلايين البشر وساهمت بشكل فعال في الحضارة الإنسانية مثلها مثل الثقافات الكبرى شرقا وغربا. لكن توقف مسيرة التطور الحضاري قرونا طويلة حرم هذه الثقافة التقليدية القدرة على خوض الرهانات الكبرى في العصر الحديث وإن ظلت قوية الحضور في مجتمعنا وفي كل المجتمعات المماثلة. وإذا كانت تعاني اليوم تصدعات كثيرة فليس مرد ذلك أن هناك من يسعى إلى هدمها كما يقال, وإنما لأنها لم تعد تؤمن وظائفها بكفاءة, بل إن عناصر كثيرة منها أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على الفرد والمجتمع والدولة (كالنزعات القبيلة والمذهبية, وجل التصورات التقليدية عن المرأة وعن الآخر المختلف عموما).
هذه التصدعات والشقوق غالبا ما يكون وقعها مأساويا على الناس, لكن المؤكد أن الأشكال الخطابية الجديدة, ومنها الرواية, تتكون فيها وتعمل على توسيعها لأن ذلك شرط نمو الحكايات الجديدة التي عادة ما تنطوي على أفكار ومعارف وقيم وتصورات جديدة مختلفة كليا عما ورثته الذات الكاتبة, وقد تكون معارضة لها بشكل جذري.
حتى حين يحاور الكتّاب تراثهم القديم لا يفعلون ذلك لإعادة انتاجه حكايات الماضي وتكريس أبطالها, بل لاستلهام رموزها ومساءلة المسكوت عنه والمكبوت فيها. وإذا ما أخذنا نماذج من النصوص الروائية المعتبرة لكتابنا فسنلاحظ أنها تنطوي على حكايات جديدة تخص نماذج بشرية جديدة تبحث عن أفق مختلف للحياة. والأهم من ذلك أنه هذه النماذج كثيرا ما تعلن مواقفها وتصر على خياراتها وإن بدت غير واثقة من جدوى البحث. وهذا أمر منطقي متوقع في مجال الرواية بشكل عام. ولقد كتب أهم منظري الرواية الحديثة عن هذا النمط من الشخصيات الإشكالية الواعية القلقة والمختلفة تماما عن أبطال الملاحم والحكايات الشعبية القديمة الذين يمثلون الإنسان الكامل بمعنى ما. وباختصار نقول إن الرواية هي حكاية فردية عادة ما تكون مناقضة ومعارضة للحكايات الكبيرة سواء أتعلقت بالأسرة أو بالمجتمع أو الأمة.
3-2:
تنزع الثقافات التقليدية إلى التعامل مع أفرادها كخلايا وظيفية في الجسد الجماعي الكبير. لهذا يعد بروز الذات الفردية المستقلة ظاهرة قويّة كل مجتمع قطع شوطا كبيرا في مسيرة التطور والتقدم. فالفرد هو بطل الأزمنة الحديثة وضحيتها في الوقت نفسه. وكل القوانين والأنظمة في تلك المجتمعات مبنية على الوعي بضرورة صيانة حرياته وحقوقه التي احتلت مركز الاهتمام لدى المفكرين والمشرعين, خاصة منذ عصر التنوير إلى اليوم.
نعم لم يكن استقلال الفرد مسيرة ظافرة باستمرار, إلا أنه يظل المكتسب الأهم للبشرية في العصر الحديث. وما يقال عن حالات الاغتراب وتفكك العائلة وارتفاع نسبة الطلاق ونزوع الشباب إلى سلوكيات غريبة شاذة.. كل هذه الظواهر التي أصبحت منتشرة في المجتمعات الحديثة, ما هي سوى ثمن لمركزية المواطن الفرد في المجتمع والدولة. كأننا أمام قانون عام ينطبق على الجميع: كلما قوي الأفراد كلما ضعفت البنى الاجتماعية التقليدية (والعكس صحيح). ثم إن منطق التطور ذاته عادة ما يدفع الناس إلى تفضيل الانتماء إلى مؤسسات المجتمع المدني الجديدة, كالأحزاب والنقابات والجمعيات المهنية والجماعات الأدبية والفكرية.. لأنها أصبحت الأكثر قدرة على تمثيل من ينتمون إليها وحماية مصالحهم.
ومع كون الفرد في مجتمعنا لا يزال يخضع للجماعة القرابية الصغيرة والكبيرة إلا أن النماذج ذاتها موجودة وستتزايد أعدادها في مدننا وقرانا دونما شك. فالأجيال الشابة عادة ما تنزع إلى التحرر من أي سلطة تفرض عليها لأنها تفضل كل ما يبدو لها جذابا مختلفا من اللباس والطعام والأغاني والأفلام والرياضات. ولولا آليات المراقبة والعقاب الكثيرة الصارمة لبدت الصورة الحقيقية لمجتمع مليء بأفراد من الجنسين لا يختلفون كثيرا عن نظرائهم الشباب شرقا أو غربا.
والمثقف الوطني أيا كان موقعه وانتماؤه وشكل خطابه هو أيضا ذات فردية مستقلة تعي أن مهنتها, وواجبها, طرح التساؤل ومباشرة البحث لتنمية المزيد من حريات التفكير والتخيل والتعبير بما أنها السبيل الأمثل لتحقيق التقدم في المجال الثقافي. قلنا سلفا أن الأمر ليس سهلا أو مضمون العواقب في مجتمع محافظ يعد الخروج عن ثقافته العريقة صعلكة أو عقوقا أو مروقا. لكن هذا النموذج موجود ولم يعد من الممكن تجاهله, خاصة أنه يقرأ ويكتب ويتحدث بطرق وفي فضاءات لا يستطيع أحد التحكم فيها.
أما من منظور خطابنا الروائي فلن يجد القارئ صعوبة في ملاحظة الأثر القوي لهذه التحولات. فالشخوص المركزية التي تتكرر في النصوص تمثل أفرادا يمتلكون وعيا متجاوزا اكتسبوه ضمن آليات التفاعل مع الثقافات الأخرى. وهذا الوعي ليس مجرد معارف ومعلومات يحفظها الشخص ويستعملها في بعض الأوقات بقدر ما هو رؤية جديدة للذات والمجتمع والعالم والكون تؤثر على مجمل سلوكه. من هنا نتفهم بشكل أدق وأعمق وقوف غالبية النماذج أو الشخصيات على مسافة كبيرة من محيطها الأسري والاجتماعي, ولا فرق بين المرأة والرجل هنا.
طبعا, هناك نماذج تنزع إلى الانطواء والعزلة, فيما تحاول أخرى السير في طريق المواجهة. لكن الهدف يظل واحدا في التحليل الأخير, وهو إثبات اختلاف الذات والإصرار على حقها في تدبير حياتها كما ترى وتريد. ومن يريد مثالا دالا على ما نذهب إليه فما عليه إلا أن يتذكر «بنات الرياض» حيث تعيش أربع فتيات تجارب يومية تكاد تكون معارضة تماما لنمط الحياة السائد في مدينة كبيرة تتيح لهن الكثير من فرص المغامرة رغم محافظتها الصارمة في الظاهر. وختاما لهذه الفقرة نقول إن بروز الذات الفردية الجديدة كثيرا ما يتجلى روائيا في ثلاثة نماذج بارزة تتكرر في جل النصوص.
النموذج الأول يتعلق بشخصية المثقف المعارض للسلطة, بمعناها الواسع, ولا يجد حرجا في كشف ألاعيبها والاحتجاج على تعسفها, بل وإغراء الآخرين بالمزيد من أشكال التأمل الذي يعزز خيار رفض التسلط بدءا من بيت العائلة كما نجده في ثلاثية تركي الحمد, والغيمة الرصاصية لعلي الدميني تمثيلا لا حصرا.
النموذج الثاني يخص شخصية المرأة المتمردة التي لم تعد تتقبل الوصاية حتى من أقرب الناس إليها, ولذا فقد تضحي بسعادتها, وربما بحياتها, من أجل كرامتها وهو ما تشخصه روايات ليلى الجهني وصبا الحرز وقماشة العليان وبدرية البشر وبعض الروايات النسوية لتركي الحمد ويوسف المحيميد.
النموذج الثالث يتعلق بشخصية الإنسان البسيط المسحوق الذي يتورط, أو يورطه المجتمع ذاته, في وضعية شقية يحاول الخلاص منها بكل الوسائل المتاحة لكنه نادرا ما ينجح لأنه فرد فقير ضعيف أعزل, ولعل روايات عبده خال في محملها خير ما يتقصى هذا النموذج ويبرز معاناته. والسؤال الذي ينطرح في نهاية هذه الفقرة هو: هل يعد بروز هذا الفرد المتمرد على محيطه والرافض لشروط حياته حالات روائية منعزلة أم أن الأمر يتعلق بظاهرة ثقافية – اجتماعية أعم وأعمق؟.
4-2:
أشرنا في فقرة سابقة إلى أن المواقف النقدية من الذات والعالم هي سمة بارزة في شخصية المثقف وخصيصة ملازمة لخطابه. ونضيف هنا شيئا آخر. فمفهوم المثقف أوسع من مفهوم «الأديب» لأنه يشمل مختلف الفئات المتعلمة التي تتدخل في تشكيل الوعي وبلورة الرأي العام, وسواء تحقق ذلك عبر وسيط الكتابة أو المحاضرة أو البرنامج الإعلامي. هكذا يحضر العاملون, ومن الجنسين, في مجالات الإعلام والتعليم والصحة والسياسة والأعمال.. فضلا عن المنتمين للوسط الأكاديمي الذي عادة ما يشكل مثقفوه النموذج الأبرز للنخب المنتجة للمعرفة والفكر في المجتمع نظرا لعمق خبراتهم المعرفية. ولو تنبهنا إلى ما يكتب في صحافتنا وما يقال في إعلامنا أوفي مجالسنا لأدركنا أن أعداد هؤلاء المثقفين كبيرة, وأن أصواتهم قوية وخطاباتهم النقدية تنتشر وتؤثر في الرأي العام بانتظام. ولا عبرة هنا بالتأثير الجذري في علاقات الواقع لأن التغير في هذا المستوى لا يتم إلا على المدى الزمني المتوسط أو الطويل نسبيا.
هذه صيغة أخرى للقول بأن الوعي الحر المنطلق الذي تشخصه النصوص الروائية وتنمذجه هو امتداد ورديف للوعي النقدي الذي تبثه خطابات أخرى لعل المقال الصحفي في مقدمتها. كأن الروائي الجيد لا يختلق الشخوص والحكايات بقدر ما ينصت للأصوات من حوله ويستثمر خطاباتها ليبلورها أو يصعدها وفق مقتضيات الكتابة الجمالية. فالأحداث والعلاقات مشروطة بحيثيات وإحداثيات زمنية - مكانية هي التي تؤمن منطقيتها الفنية ومصداقيتها الفكرية لدى القارئ المفترض. ولا نبالغ حين نقول إن كل الكتابات الروائية واقعية بمعنى ما, وذلك لأنها تظل في حوار متصل مع وقائع ونماذج يمكن أن توجد كل لحظة في كل مكان.
وختاما نعود فنؤكد أن الرؤية النقدية للذات والعالم هي التي تؤسس لكل خطاب ثقافي حديث, وهي في الرواية الجديدة شرط جمالي محايث للكتابة ومبرر لها, وسواء أعلنت بنبرة جادة صارمة أو مرحة ساخرة. ولعل احتفالنا بربيعها الماثل هو تطلع مشروع إلى ربيع ثقافي - اجتماعي يعيد صياغة مختلف علاقات الإنسان بالعالم من حوله لتغدو آفاق الحياة أكثر اتساعا و جمالا.
* ناقد أكاديمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.