قبل أن يموت أبي قلت له:- عندما أتزوج يا أبي سيكون بإذن الله أول ابنائي يحمل اسمك.. ومات أبي قبل أن أتزوج بسنتين...! وتزوجت وكان أول ابنائي يحمل اسم أبي، فرحت به لأني لم أفقد في لساني نطق اسم أبي، وشاء القدر أن يموت ابني بعد موت أبي بتسع سنوات!!. دفنت أبي ولم أجد قبراً يحوي جسد ابني في أرض موت أبي، استعنت بالله ودفنت ابني في مكان بعيد عن أرض جسد أبي!.. هما رحلا.. لا شك في ذلك.. جمعهما حب قلبي ونفس الاسم كما جمعهما الحزن والموت وفرقهما التراب!.. قبل سنين كنت أفيق من نومي على رائحة قهوة أبي وصوته حين يأمرني بأن أصحو لأداء صلاة الفجر، وفقدت رائحة قهوة أبي لأفيق من نومي على صوت إلحاح صوت ابني كي أصحو حتى لا يتأخر عن طابور الصباح فلديه أنشودة سينشدها في إذاعة طابور الصباح.. تبعثرت رائحة قهوة أبي في أجواء الدار حتى تلاشت، وأنشد ابني أنشودة الإذاعة المدرسية وصمت.. كنت أرى في ملامح وجه ابني وجه أبي، وأصبحت أرى في ملامح زوجتي شيئاً من ملامح ابني..!. لم يقف الزمن عندي ولم يبرح مكاني..! كل الطرق التي أمامي أجدها قد اتشحت بالسواد وتفرعت منها أزقة أشد ضيقاً وسواداً.. هنا طرق وأزقة لم أطأها من قبل حين كنت أتلحف ابتسامة أبي ودعاءه.. وهناك طرق أخرى سكنتها حين عدت من دفن جسد ابني بيدي.. مات أبي حين طرق القدر بابنا وقال كلمته القاسية على جسد ابني دون مقدمات، مات أبي بعدما شرب قهوته وتناول إفطاره، مات في ضحى يوم صيفي بسكته قلبية، فوجدت بموته أن هناك خطوات كثيرة تحمل نفس خطواتي وملامح عديدة مختلفة تتشابه في نفس الدموع والحزن اللذين أسدلا سدولهما على تلك الملامح. هنا في هذه المقبرة يصبح الضعف عدلاً، كنت ضعيفاً لدرجة الهشاشة، جرفت من الأرض حفنة من تراب ونثرتها على جسد أبي ولم أكن أتوقع أنني سأجرف نفس كمية الحفنة وأنثرها على جسد ابني، مات أبي وقال المعزون كلماتهم التي لم اسمعها، وأدركت بحركات شفاههم إن أبي بالفعل قد أخذه الموت ومن يأخذه الموت لا يعيده أبداً!!. أوفيت بوعدي لأبي، وحمل ابني اسم أبي، فرحت به وبكيت رحيل أبي الذي لم يعش اسمه وكان اسم أبي لا يعرف سوى الموت!!.. في ذلك الصباح من أول أيام الأسبوع كان ابني يشدو بأنشودة الصباح التي سيلقيها في طابور الصباح وهو واقف في المرتبة الخلفية من سيارتي وشابك يديه على مسندة الرأس لمقعدي، كان صوته عالياً وكنت أنهره ليخفف من حدة صوته، يخفض صوته ومن ثم يتمادى في علو صوته وحين أنهره مرة أخرى كان يقول لي إن المعلم يقول له لابد أن يكون صوتك عالياً ليسمعه الكل، ذلك الصباح وبعدما دخل من دفتي باب المدرسة وقبل أن أصل إلى نهاية الشارع سمعت صوته ينشد بالأنشودة التي كنت أرددها خلفه حتى بعد أن ابتعدت ولم أعد أسمع صوته كنت أرددها بنفس صيغة نطقه.. لن أنسى ذلك الصباح أبداً ولن يغب عن ذاكرتي أبداً، لم أكن أعرف أن هذا الصباح هو آخر صباح يجمعنا، فبعد صلاة الظهر تأخرت في العمل لتصوير بعض الأوراق المهمة وحين انتهيت وقبل أن أغادر العمل لأخذ ابني من المدرسة رن جرس الهاتف وكان صوت المدير الذي يخبرني بأن ابني تعرض لدهس سيارة وتم نقله إلى المستشفى القريب، تساقطت الأوراق التي كنت سأخذها معي للدار على الأرض وركضت كالمجنون لسيارتي وبسرعة لم أعتدها من قبل وصلت للمستشفى، وفي قسم الإسعاف سألت عن ابني ليشير لي الموظف بكل برود بأنه هناك في غرفة الإسعاف المقابل للاستقبال، دخلت الغرفة لتصطدم نظراتي بجسده الصغير مغطى بالقماش الأبيض الملطخ بالدماء، رفعت نظري نحو الطبيب الذي سألني: أهو ابنك؟ هززت رأسي بالموافقة دون قدرة لي على الكلام. البقاء الله.. لم أشعر بشيء سوى أنني أفقت على سرير قماشه أبيض وعلى سطح كفي قد ارتكزت إبرة داخل وريدي، كان طبيب آخر فوق رأسي. الحمد لله على السلامة.. صرخت به: أين ابني.. أين ابني. أهدأ يا رجل.. الأعمار بيد الله والله يجعله من عصافير الجنة ويشفع لكما به.. سحبت الإبرة من كفي وتراشقت دمائي على وجه الطبيب وثوبي ليمسكني بقوة مع آخرين لم أنتبه لوجودهم ويثبتني على السرير ليغرز بعضدي إبرة أخرى لم أر بعدها سوى صوت ابني ينشد أنشودته وبعدها ظلام دامس..!!. لم تعد داري تحوي سوى الصمت والنظرات التي ترتقب ما لا وجود له أبداً، حتى الخادمة التي انزوت في غرفتها ورفضت استنطاق الكلمات معنا كما رفضت قبول موت ابني سافرت وقالت لي عند بوابة المغادرة في المطار: حين يعود محمد سأعود!!. كان الصمت يشق جدران دارنا برتابة لم نعتدها من قبل، كل منا ينظر إلى الآخر ومن ثم يحيل نظره إلى باب غرفة ألعاب محمد، وحين يطول الانتظار ولا نسمع صرخاته ولا وقع خطواته ترمي زوجتي دمعتها في عيني وأرمي أنا دمعتي في عينها، فالأيام الأولى لوفاته سكنت زوجتي في دار أهلها وسكنت أنا صدر أمي أرطبه بدموع احتياجي وذاكراتي!!.. وحين عدنا للدار لم نجد أي أثر من آثار وجود محمد، حتى غرفته لم تكن كما هي، كل شيء تغير ولكن تظل الأماكن مهما تغيرت ألوانها تحمل سمات من سكنها. كلانا.. أنا وزوجتي لم نحتمل الدار المحشورة بذكريات ابننا ولم نحتمل بقاءنا من بعده.. كانت تقول لي زوجتي: حينما أنام يأتي ابني محمد مدثراً بالبياض ويبكي تحت قدمي، يقول لي: لماذا لم يأت أبي ليأخذني من المدرسة.. وتجهش بالبكاء، أربت على كتفها وأقرأ عليها آيات من القرآن الكريم وبعض المعوذات حتى تهدأ وتنام على صدري حينها أسرق دموعها التي بللت ثوبي وأخبئها في عيني المتخمة بالدموع الصامتة لتنفجر على رأسها دون أن تشعر ببلل رأسها من الإنهاك والفقد أيام بطيئة مضت على وفاة ابني محمد، لا زلت حين أعود إلى الدار تكون زوجتي منى عند أهلها توسد في زوايا دارهم حزن أبى الرحيل لتعود قبل انتصاف الليل، أجلس أمام باب الدار، أنتظر قدومها وعيني ترقب ما خلفها في انتظار أن يطل علي وجه ابني العائد معها لأضمه إلى صدري وأنام، وعندما تقفل الباب خلفها دون أن يدخل من فتحتي الباب وجه محمد أكتم حزن الفقد بداخلي حتى لا ألمس ضعفها وحزنها، تدخل الغرفة بعدما تلقي علي السلام، لم يكن وجهها هو ذلك الوجه الذي كان يضمني مع ابني، تستبدل ملابسها لأخرج من الدار وأعبر الطرقات موازياً للأرصفة أنفث حزناً داخلياً وأبكي كل دموعي حتى ترتاح نفسي وأعود لأجدها قد توسدت فراشها وفي وجهها بقايا دمعة تحكي لي عن دموع سابقة امتصتها مخدتها، هكذا كنت حين أراها، لم أستوعب أن ابني قد مات وتركنا لوحدنا في هذه الدار الموحشة، وهكذا كانت تراني حين أعود من عملي أجدها تنتظرني عند الباب وسبابتها على شفتيها حتى لا أحدث ضجيجاً يصحو عليه ابننا محمد القادم للتو من المدرسة، تنظر إلى يدي لترى ما جلبته لمحمد ولا تجد سوى صحيفة يومية غير مرتبة صفحاتها رغم أنني لم أقرأ حرفاً واحداً منها لتدرك أن محمداً ليس نائماً في الدار، تضم يديها على وجهها وتبكي بشدة لتنهار على الأرض، لم نعد كما كنا.. ولم تعد الحياة تتحمل وجودنا مع بعض، زوجتي تغيرت كثيراً، لم تعد تلك المرأة المرحة، آثاث الدار كما هو منذ زمن، الغبار يكسو كل الأمكنة حتى نظراتنا، الدموع لها حكايات طويلة عالقة فوق الجدران، حتى أنا لم أعد كما كنت، نظراتي لم تحتمل الأمكنة في غيابة، لم أعد أحتمل الصبر وكل شيء ذكرني بابني، حتى وجه زوجتي!!. هكذا كانت أمورنا بعد وفاته، كنت أتمنى أن أقضي كل أيام عمري هنا في مكتبي في العمل وأن لا أعود للدار، ففي داري يتبادر لي دائماً ذكرى ابني محمد معلقاً بوجه زوجتي.. تعبت جداً، صداع عنيف يتخلل خلايا رأسي، همست لنفسي وكفي يحيطان برأسي: لا شيء يدعو للفوز بعد وفاة ابني.. أستأذنت من مديري في العمل وخرجت، ركبت سيارتي بعدما فكرت كثيراً في قراري الأخير اتجهت إلى ذلك المبنى القابع في وسط مدينة الرياض، دخلت المبنى وكأن هناك شيء خلف ظهري يدفعني للدخول، طلبت مقابلة الشيخ وقابلته، قلت له كل شيء، رميت على مسمعه كل كلماتي، تأكد هو من بعض الأشياء حين سألني عن زوجتي، قلت له قبل أن يسترسل في الحديث إن الموضوع يا شيخ قد انتهى قبل الدخول عليك، صمت للحظة ومن ثم قال لي: قل الكلمات التي أقولها.. رددت خلفه كل كلماته ودمعتي ترحل بعيداً عند يوم زواجي لتقف على خدي... ختم على ورقه، التقطتها بيدي وغادرته، وضعت الورقة على المقعد الذي كانت تجلس فيه زوجتي وعند الإشارة الحمراء الأولى بعد المبنى أدركت حين نظرت إلى مكانها الخالي وتلك الورقة التي تحوي مكانها أنني فقدت ابني وزوجتي إلى الأبد.