يرجع رئيس مركز الدراسات الدبلوماسية الدكتور عبدالله بشر التغير في تعاطى الجامعة مع الأزمات العربية المصاحبة للربيع العربي إلى محاولتها التكييف في مواقفها مع القيم الإنسانية التي يلتزم بها المجتمع الدولي وتتبناها الأسرة العالمية في حقوق الإنسان وكرامته، وفي الانفتاح وحق الشعوب في تقرير المصير مع تأسيس هيئات تابعة لها تتصدى لانتهاكات حقوق الإنسان واحترام ارادته وحقه في التعبير السلمي عن آرائه دون تعسف أو ملاحقة، مع إدراك الجامعة بأنها لا تستطيع ان تتجمد أمام أحداث دموية تجري داخل بلدانها، وقناعتها بأنها تملك التفويض المعنوي والسياسي للتحرك. ويضيف: أن هذا التكيف دفع الجامعة إلى الخروج من العزلة التي حرمتها من التلاقي مع التوجهات العالمية بسبب خوف أنظمة الاستبداد من تسلل هيئات أوروبية وأمريكية إلى داخلها بالدعوة الى فلسفة لا يتقبلها النظام المستبد، وجاء انسحابها من العزلة بدعم خليجي مؤثر ومؤازرة عربية شبه جماعية. بقاء الحل عربيًا ويرى رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور حسن نافعة أن ما يجري في سوريا لا يختلف كثيرا عما حدث من قبل في دول عربية أخرى، وقد يحدث مستقبلا في دول اخرى ويقول أن من واجب الجامعة العربية أن تتدخل لحماية الشعب السوري والبحث عن حل سلمي للأزمة، لكن عليها أن تضمن في الوقت نفسه أن يبقى الحل عربيا وألا يكون تدخلها مجرد غطاء لدور أجنبي قد يؤدى إلى كارثة في المنطقة ويضيف بأن الواقع العربي يجب أن يتغير كليًا. نظام عربى مختلف أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة الدكتور بهجت قرنى يقول: إن تعاطي الجامعة مع الأزمة السورية يكشف الصراعات في السياسة العربية وأنها مازالت أسيرة معطيات تاريخية وبالرغم من تغير الأوقات، وذلك عقب قرارها القاضي بتجميد مشاركة دمشق في أعمالها وأنشطتها. ويرى قرني أن مثل هذا القرار كان غير متوقع بالنسبة للكثيرين، على أساس أن الجامعة كما يدل اسمها الرسمي هى جامعة الدول العربية، وعادة ما تكون في صف الحكومات وليس الشعوب، لكن هذه المرة جاء قرارها ضد الحكومة السورية، وليس هذا فقط ولكن بموافقة حاسمة من أغلبية كبيرة: 18 صوتًا، وامتناع العراق عن التصويت، بينما عارضت القرار دولتان فقط، هما اليمن ولبنان. وإذا كان اتجاه الحكومة اليمنية متوقعًا، على أساس أنها تخشى أن يأتي عليها الدور بعد ذلك، فإن موقف التصويت اللبناني لا يمكن شرحه إلا بالجوار الجغرافي لدمشق وتداعياته السياسية، حتى لو تم الإعلان عن تبريرات أخرى لهذا التصويت. ويمضي قرني الى القول: ان أطراف الخلاف الرئيسية تشرح نتيجة التصويت بطريقتها الخاصة، وفي الوقت الذي تصر فيه دمشق على أن القرار الصادر عن الاجتماع الوزاري للجامعة ليس فقط غير قانوني ولكنه يعكس «النفوذ الامريكي الصهيوني» داخل الجامعة كما تدعى، ويضيف أن الاستخلاص الأساسي في الوقت الراهن هو أن الجامعة ومعها السياسات العربية، تدخل مرحلة جديدة لا عهد لها بها، ولنذكر في هذا الخصوص نقطتين على سبيل المثال: الأولى أن الربيع العربي -كرمز لاحتجاجات الشارع- وصل حتى إلى أروقة الجامعة تلك المؤسسة الإقليمية العتيقة، ومهما كانت دوافع كل دولة من الدول التي صوتت في صالح القرار. لكن ما جرى قد يؤدي إلى عودة نوع من الثقة في المؤسسة الإقليمية «الجامعة العربية» ، كما أنه لا يجعل هدف «الدفاع عن المدنيين» حكرًا على «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) أو غيره من المؤسسات الأجنبية والدولية. والثانية: أن الجامعة بهذا التصويت تنضم -ضمنًا أو صراحة- إلى تبني المفهوم الجديد للسيادة الوطنية وبدون الدخول في تفاصيل وتشعبات القانون الدولي وتداعياته على النظام العالمي، فإن المفهوم الجديد للسيادة الوطنية ظهر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وذلك عن طريق إحدى لجان الأممالمتحدة بتمويل وقيادة كندية، وقد ارتكز على التشكيك في المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية، بما يتضمنه من احتكار داخلي ودائم للسلطة، أي أن الحكومة لها مطلق الحرية في التعامل مع الداخل، بما في ذلك -أحيانًا- قتل مواطنيها. كما ارتكز المفهوم الجديد أو المعدل على أولوية حماية السكان المدنيين، وبالطبع يفتح هذا المفهوم المعدل الباب للتدخل الخارجي وإساءة استعماله من جانب بعض الدول الكبرى، ولكن مبدأ حماية المدنيين استقر الآن في المفهوم الدولي للسيادة. ويؤكد قرني أن قرار الجامعة العربية الأخير يعكس هذا التحول الدولي في مفهوم السيادة الوطنية، أو ما يسمى باختصار «المسؤولية الإنسانية عن حماية المدنيين»، إلا أن الجامعة تستطيع بهذا القرار أيضًا أن تمنع التدخل المباشر من خارج المنطقة، وأن تحصره في «البيت العربي»، وأن تُقنن أحد المبادئ الدولية الهامة حاليًا، حيث ما عاد باستطاعة أية حكومة التصرف على هواها وبدون قيود حيال أفراد شعبها وجماعاته، بل صارت الحكومات مجبرة على التحاور مع قوى المعارضة بدلًا من التصرف انطلاقًا من الهاجس الأمني وحده. لقد أصبح من الضروري عمليًا التكيف مع الأوضاع الجديدة، لاسيما بعد خروج الكثيرين إلى الشارع للمطالبة والاحتجاج. وعلى هذا النحو يكون قرار الجامعة الأخير، إذا استمر تطبيقه بموضوعية ومشروعية قانونية، رادعًا لمفهوم الحكومة كمؤسسة بوليسية ليس إلا. ويقول إن قرار الجامعة غير المتوقع يمثل مرحلة هامة في سياسات هذه المؤسسة وفي هيكل العلاقات العربية ذاته، بما في ذلك نمط تفاعل هذه العلاقات مع محيطها الإقليمي العالمي. وهكذا فإن عودة «الصراع على سوريا» -بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن- قد يكون بداية لنظام عربي مختلف، أراد ذلك من أراده وعارضه من عارضه.