هكذا صاح سامي ولد الحارة الشهم أمام عم صبغة العطار في دكانه في سوق المعلاة بشق شعب عامر الغربي. - عم صبغة: مين من العُمد يا واد..؟ - قال سامي: عم محمود. - رد عليه عم صبغة: محمود الجنقلي...؟ - سامي: لا محمود بيطار - عم صبغة: يا واد هادا ولد عمك سليمان البيطار زمزمي في الحرم.. وولده مو عمدة.. - سامي: إلاّ يا عم صبغة.. دحين سار عمدة الهجلة.. إنت ما تدري..؟ الله يعافيك يا عم صبغة سرت تنسى.. - عم صبغة: مو هو اللي أمس كان لابس (بدلة الكشافة) في مدرسة جياد النموذجية.؟ وأستاذه محمد عمر حلواني اللي كان ساكن في زقاق (مسجد الشودري) بعد بستان البخارية بجوار بيت العطار..؟ - سامي: ما أدري يا عم صبغة.. المهم الميت هو محمود بيطار عمدة حارة الهجلة.. ويبغوا يغسلوا دحين.. ويصلوا عليه العشاء في الحرم. - عم صبغة: الدايم الله يا ولدي.. يا واد أديلوا كفن وحنوط.. الدايم الله. - وصبي عم صبغة يرد على سامي: يا خوي هادا ولد عمك صبغة.. عم صبغة مات الله يرحمه.. إنت من فين..؟ - سامي: من الهجلة.. وما تعرف إنوا عم صدقة مات.. أهل الهجلة كلهم يعرفوا.. بس يا أنا ما أدري.. المهم. لقد مات العمدة وخيم الخزن على بيوت الحارة.. وتحول عصر الجمعة إلى كفكفة الدموع. ومات في هذا العصر (سوق الحطب) بغياب باعته الذين كانوا ينشرون حطبهم.. لم يعد اليوم لهم تلك المباسط الطويلة والنداءات الجميلة.. لقد جمعوا حطبهم وحزموا (بُقَشهم) وشدوا عمائمهم إلى.. تشييع جنازة العمدة.. خرجت الحارة.. بعد انطفاء القناديل والسرج في البيوت، وتوارى حتى من كان يسمر تحت أضواء (أتاريك) البلدية في الأزقة والشوارع العامة. خرجن الولايا والأرامل من غرف الأربطة يبكين ويشكين ويندبن العمدة.. خرج اليتامى من دورهم يبحثون عن يد تمتد إليهم مانحة وماسحة. خرج حتى المعلم (اليابا القراري) تاركًا إعداد عدته للعمل في صباح السبت. لقد هرعوا جميعًا بعد أن بلغهم الخبر قبيل صلاة الجمعة.. مسرعين إلى الجنازة في الحرم.. بينما وقف بعضهم يستقدم ليله وقد ضل طريق العودة إلى داره وعزلته.. فاقدًا اهتداءات سمره المرتقب في تلك الليلة.. التي أعد بعض ساعاتها للراحة الجسدية حتى يحين الصباح، ويجدد النشاط في يوم قابل. كما خرج المطوفون من مكاتبهم والحرفيون من بيوتهم ودكاكينهم، وأغلقت المحلات ليمتد بهم الطريق بعد الصلاة في الحرم من المروة إلى سوق المدعى إلى (مقراة الفاتحة) إلى الجودرية ومسجد الراية إلى سوق المعلاة إلى مسجد الدندراوي إلى مسجد الجن إلى (جنة المعلاة) حيث يرقد الموتى. وقد بدا أبو (زكي) نقيب العمدة شبيهًا بشخصية سويعد ذلك الرجل الذي كان يجوب الأسواق وأزقة الحارة وينادي على أولاده الذين ماتوا منذ زمن بعيد.. وكان يدق أبواب البيوت ويسأل الناس: (وين أولادي.. أولادي عندكم.. وين أولادي) لقد جنّ بهم ولم يستطع نسيانهم. وها هو اليوم ينادي: (فين العمدة.. فين العمدة.. وهو يسير بين المشيعين.. فين العمدة أبغى أشوفو.. فين العمدة..؟ وروني هو..) وحتى بعد الدفن ظل ينادي.. (فين العمدة...؟ فين العمدة..؟ فين العمدة..؟) وفي المعلاة تتجدد الأحزان وتعود إلى كل المشيعين حينما يتذكر كل واحد منهم ميتًا له عرف قبره أو نسيه: تراه واقفًا يردد كلمات الرثاء ويجدد له الدعاء.. ومن منا لم يدفن له حبيب في جنة المعلاة..؟ من منا لم يذق ألم الفراق ويسكب العبرات على ثرى تلك المقبرة وسورها وتحت أشجارها العتيقة. هذه المقبرة التي تذكرنا بمن مات من رجال و(حريم) مكة الأفاضل، أقرباء ومعارف.. أجداث أحباب ضمتها هذه المقبرة.. من جدارها الغربي إلى سورها الشمالي بجوار أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها. وبعد الدفن والدعاء وعودة الناس للعزاء.. إذا بعم حامد الراعي.. يمر بجانب سور المقبرة على حماره الأشقر.. قد عاد من (ريع ذاخر) وفي (خُرْج) حماره أتعاب النهار ومشاق المسار.. رأى الناس في خارج وداخل المقبرة وبين ذاهب وواقف ومنتظر.. وقد تداخلت رؤوسهم برؤوس الحجاج ومصابيح التكاسي، وتداخلات أصوات الناس بأصوات الدراجات النارية. وهو يسأل: (مين مات..؟ قيل: العمدة.. مين..؟ عمدة الهجلة محمود بيطار.. ولد سليمان بيطار..؟ أمس شايفو في الملكة.. أنا أشك).. قالها من فجأة الخير.. ولكنه! الحق الموت الحق الذي لا شك فيه. نزل عن (بردعة) حماره وحزم على خُرجه وربطه بساق سدرة بجوار بيت عم صدقة أبو نار ومشى إلى المقبرة وهو يهلل (لا إله إلا الله ) ويكبر (الله أكبر الله أكبر)، ويرجع ( إنا لله وإنا إليه راجعون) الدايم الله الدايم الله.. الله من فين دحين نجيب (حَداوي) الحمار..؟ اللي كانت تخرج من بيت البيطار يعني الحمار (يُعْرج) ولا ما يمشي ولا إيش أسوي.. الله يخارجنا يا رب.. الله يسامحنا.. يا رب حسن الخاتمة اجعلها على توبة وشهادة) ويعزي أهل الميت: (عظم الله أجركم.. عظم الله أجركم.. أحسن الله عزاكم.. أحسن الله عزاكم.. اللهم اغفر له وسامحه) نعم اللهم ارحمه فقد كان رجلا وشخصية محبوبة متواصلة مع الناس في الحارة وخارج الحارة، كان تراثيًا يحيي ليالي التراث ويعيد العادات والتقاليد الجميلة التي افتقدناها اليوم.. كان يجسدها بمهرجانات شعبية في مناسبات (الشعبنة) وفي مناسبة المعايدة في مركازه بالهجلة، وكان يُقعد كل من يمر بالمركاز ويدعوه إلى تناول العشاء والحلوى وشرب الشاي بعبارات عذبة ورثها عن زمرة الزمازمة في مكة الحرم.. وكان قد خصني بتكريم في يوم من أيام الشعبنة التي يقيمها هو وأهالي حي الهجلة في منطقة (حدا) وحينما نودي باسمي لم أكن قد حضرت، وبعد حضوري قابلني لدى الباب ابن عمدة حارة الشامية والمكرّم أيضًا في الحفل الشيخ عبدالله بصنوي رحمه ابنه اللواء عبدالمعطي قائلا لي: (نادوا على اسمك مرات ومرات).. وحينما وصلت إلى منصة الحفل إذا بالعمدة البيطار يرحب بي ويجلسني في مكان، ونادوا ثانية وقدمني إلى أمين العاصمة معالي الدكتور أسامة بن فضل البار وسلمني الدرع التذكاري المقدم من عمدة وأهالي حي الهجلة. فرحم الله محمود البيطار، وجزا الله من جاء مواسيًا ومعزيًا من أهالي حارات وكبار أعيان مكةوجدة يتقدمهم العُمد، منهم: محمد عبدالرحمن بسيبس عمدة حارة الباب، وطلال بن محمد الحساني عمدة التيسير، وسامي يحيى المعبر عمدة شارع المنصور، وناجي المولد عمدة البياري، عبدالكريم حبيب عمدة النزهة سابقًا، وسراج بكر عياد عمدة سوق الليل سابقًا، والعمدة عبدالله الهيطلي، ومن جدة: الشيخ طلعت غيث عمدة حي الشاطئ، ومحمد عبدالصمد عمدة حارة اليمن جاؤوا من جدة لمواساة أهل زميلهم وصديقهم في مصابهم.. (وإنا لله وإنا إليه راجعون).